بالحبر والرماد.. كيف يحارب أطفال ومدرسو غزة من أجل البقاء والتعلّم؟

بالحبر والرماد.. كيف يحارب أطفال ومدرسو غزة من أجل البقاء والتعلّم؟
أطفال فلسطينيون يتلقون دروسهم في خيام مؤقتة

مرّ عامان على اندلاع الحرب على قطاع غزة عقب أحداث أكتوبر 2023، لكن الذاكرة لا تعرف النسيان، عامان منذ آخر مرة جلستُ فيها على مقعدٍ خشبيّ داخل فصل مدرسة خولة بنت الأزور، أُمسك قلماً وأرسم أحلاماً صغيرة بين دفّتي كتابٍ لم يعد موجوداً، أفتقد صوت الجرس الصباحي، رائحة الطباشير، وضحكات الصديقات التي كانت تملأ الممرات، كل ذلك انتهى حين سقطت القذائف، حين احترقت الكتب وتحوّل الفناء إلى ركام.

تضيف الطفلة الفلسطينية ذات الاثني عشر عاماً من خان يونس في قطاع غزة جويرية عدوان كنت في الصف الخامس في ذلك اليوم، السابع من أكتوبر، لم أكن أعلم أن آخر درسٍ في الرياضيات سيكون آخر يومٍ في عالمي القديم، انطلقت صفارات الإنذار، اختلط بكاء الأطفال بصوت المعلّمة التي تحاول أن تبدو قوية، لكنها كانت ترتجف مثلنا، تمنيت أن يكون يوماً عادياً، لكنه تحوّل إلى الصفحة الأخيرة من طفولتي، بحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية.

وتتابع، اليوم أعيش مع عائلتي في خيمةٍ بمخيم المواصي في خان يونس، الجدران القماشية ترتجف مع كل هبّة ريح، لا تحجب برد الشتاء ولا حرّ الصيف. الماء يُوزّع بالقطرات، والطعام حلمٌ مؤجل، والكهرباء زائرٌ عابر، الخصوصية تلاشت، والكرامة تصارع البقاء، وفي الليل، أنظر إلى السماء من ثقوب الخيمة وأسأل نفسي: هل يرى أصدقائي النجوم ذاتها؟ بعضهم يكتب لي حين يتاح الاتصال، يخبرني أنه يفتقد المدرسة وأنه يحتفظ بدفتره كما لو كان كنزاً من زمنٍ ضائع، أشعر بالذنب لأنني فقدت كل شيء؛ كتبي، صوري، وحتى مقعدي الأخير في الصف.

وتقول: كنتُ أحلم بأن أصبح معلمة لأطفال غزة، أزرع فيهم حب العلم والأمل، لكن الحرب غيّرت مسار الحلم؛ الآن أرغب أن أكون صحفية، أريد أن أروي قصتنا.. قصة الأطفال الذين فقدوا مدارسهم وأحلامهم، لكنهم لم يفقدوا شجاعتهم، لأننا رغم الدمار، نرفض أن نصمت.

وتردف قائلة: عندما يتاح الإنترنت، أتابع دروسي عبر شبكةٍ متقطّعة، أحياناً نذهب إلى خيمةٍ صغيرة يتطوع فيها مدرسون لتعليمنا الرياضيات واللغة العربية، الحصص قصيرة، لأن الكهرباء تنقطع أو يبدأ القصف من جديد، لكن تلك اللحظات القصيرة تكفي لأتذكر من أنا.. الطفلة التي كانت تؤمن بأن التعليم يستطيع أن يُغيّر العالم.

واختتمت قائلة: لقد أخذت الحرب منا كل شيء: منازلنا، ومدارسنا، وأقاربنا، مدينتنا رفح التي كانت تنبض بالحياة وصارت ركاماً، لكن الخسارة الأعظم ليست المباني، بل التعليم؛ لأنه فقدان المستقبل نفسه، أريد أن أقول للعالم: لا تدعوا أحلامنا تموت، لسنا بحاجة إلى شفقة، بل إلى فعل، نحن بحاجة إلى كتب بدلاً من الذخيرة، إلى مدارس بدلاً من الملاجئ، إلى أملٍ يبقي أطفال غزة على قيد الإنسانية.

الكثير من الألم

في المخيم نفسه، تقف المعلمة نجلاء وشاح بين صفوفٍ غير مكتملة، تحاول أن تُعيد النظام إلى فوضى الحرب، كانت تُدرّس ستة صفوف في مدارس قطاع غزة قبل الحرب، نحو 240 طالباً وطالبة، تقول: كنت أعيش من أجل تلك اللحظة حين تلمع عينا طالبٍ بعد أن يفهم فكرة جديدة، كانت تصنع من الصف عالماً من اللعب والضحك والرسم والقصص، لكن ذلك العالم انهار.

تحوّلت مدرستها إلى مأوى للنازحين، ثم صارت هدفاً للقصف، لم يبقَ سوى القليل من المدارس في غزة، والكثير من الألم.

تقول نجلاء: رحل العديد من طلابي، أولئك الذين كانوا يحلمون بأن يصبحوا أطباء وفنانين، البقية يعيشون جوعاً وتشرداً، لكنهم ما زالوا يسألونني: هل سنعود يوماً؟ تتوقف لحظة، ثم تضيف: لا أعرف.

حين يتوفر الاتصال، تتلقى رسائل قصيرة منهم: هل أنت بخير يا أستاذة؟ تسألهم عن دروسهم، وهم يجيبون بأملٍ خافت. التعليم في غزة لم يعد مجرد واجبٍ أكاديمي؛ صار فعل مقاومة، إعلاناً أننا “ما زلنا هنا".

المعلمون الآن يدرّسون في الخيام، في مبانٍ نصف مدمّرة، في الملاجئ. التعليم صار شكلًا من أشكال البقاء، وصوتاً يصرخ في وجه العدم. تقول نجلاء: أنا أمّ لثلاثة أطفال، يقضون يومهم في طوابير الماء أو جمع الحطب، طفولتهم اختُطفت، لكني أذكّرهم بأن المعرفة قوة، وأن العودة إلى المدرسة ستكون يوماً احتفالاً بالحياة.

تؤمن نجلاء أن التعليم هو آخر ما تبقّى من الأمل في غزة، وأنه الطريق الوحيد للنجاة من ظلام الحرب.

الشعور بالحياة الطبيعية

أما سارة الشريف، ذات التسعة أعوام، فتقول بصوتٍ خافت: أفتقد الشعور بالحياة الطبيعية كانت في السابعة حين بدأ القصف، تتذكر يومها في حصة الرياضيات، حين دوّى الانفجار الأول، وكيف هرع والدها ليأخذها من المدرسة التي دُمرت بعد أيام كل ما كنت أعرفه اختفى؛ المدرسة، البيت، ألعابي. حتى ملامح الحي تغيّرت.

تجلس سارة اليوم أمام خيمتها، تمسك قلماً مكسوراً ودفترًا ممزقًا، تقول: أريد فقط أن أتعلم، أريد أن أعود إلى طاولتي القديمة، وأكتب واجبي دون خوف.

وراء كلمات الطفلة تختبئ قصة جيلٍ كامل فقد طفولته، لكنه لا يزال يتمسك بخيطٍ رفيع من الأمل، في كل زاوية من غزة هناك طفل يحاول أن يتعلم رغم الجوع، معلم يدرّس رغم الخطر، وأم تزرع الأمل رغم الحصار.

التعليم في غزة اليوم ليس مجرد حق؛ إنه نداء للحياة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية