رغم انتهاء الحرب.. أطفال لبنان يعانون آثاراً نفسية وجسدية مدمرة

رغم انتهاء الحرب.. أطفال لبنان يعانون آثاراً نفسية وجسدية مدمرة
أطفال لبنان يعانون آثارا نفسية جراء الحرب

رغم انتهاء الحرب في لبنان وبدء عودة آلاف النازحين إلى ديارهم مع إعلان وقف إطلاق النار فجر الأربعاء، تركت الحرب ندوبا في الجسد اللبناني يعاني منها الكثيرون، لا سيما الأطفال الذين تركت الحرب في أذهانهم ذكريات يصعب محوها ومعالجة آثارها النفسية.

وكشفت منظمة "اليونيسف" في بيان لها عن أن الأطفال في لبنان يعانون خوفًا عميقًا وقلقًا متزايدًا، بما في ذلك قلق الانفصال والخوف من فقدان أحبائهم، ويظهرون علامات الانسحاب والعدوانية وصعوبة التركيز. 

وقالت “اليونيسف”، إن "الكثير من أطفال لبنان يعانون اضطرابات النوم والكوابيس والصداع وفقدان الشهية، وبسبب حرمانهم من الأمان والاستقرار والدعم الذي توفره المدرسة، يفتقر العديد من هؤلاء الأطفال إلى المساحات التي يحتاجون إليها للعب والتعلم والتعافي”.

وصحيح أنه تم الإعلان عن وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، إلا أن التداعيات التي تركتها الحرب على الأطفال نفسيا وجسديا، قد تهدد مستقبلهم في حال لم تتم المسارعة إلى إيجاد الحلول اللازمة.

كوابيس ومشاعر مختلطة

وفي محاولة لفهم معاناة الأطفال تحدث "جسور بوست" إلى بعض الأطفال ممن مروا بتجربة النزوح، حيث قال الطفل حسين عواد (8 سنوات): " عندما كنت أسمع صوت قصف أو طائرة، لم أكن أخاف، فمثلا لا أبكي أو أختبئ.. وإذا شعرت بالحزن أتحدث مع أهلي”. 

ويضيف في حديث مع "جسور بوست"، قائلا، "كنت سعيدا في مركز الإيواء، لأني قادر على اللعب وإمضاء الوقت مع الرفاق"، مضيفا أنه يأكل بشكل منتظم وبأنه لا يشعر في أي مرض، ومع ذلك يروي معاناته مع النوم، قائلا "أنام جيدا، ولكني أرى كوابيس عن الحرب، مثل تعرض أبي للقصف خلال قيادته للسيارة”. 

أما جودي (10 سنوات)، الطالبة في المرحلة الإبتدائية، فقالت "كنت أسمع أصوات القصف وأخاف منها، فأختبئ بحضن أمي، وقد شعرت بحزن شديد لأني تركت منزلي، وفي الكثير من الأحيان كنت أستيقظ خلال نومي، وبت أتناول الطعام بنسب أقل من قبل الحرب بكثير، وأحيانا أبكي في الليل قبل النوم".

وتضيف في حديث مع "جسور بوست"، "أمي كانت تشجعني على النزول إلى الملعب لكي ألعب مع أصدقائي وأخفف عن نفسي، لكن الحياة في المنزل أفضل من الحياة في مركز اللجوء ففي البيت تكون مرتاحا أكثر من أي مكان آخر”.

وقالت آمال، ابنة الـ7 سنوات، "لم أكن أشعر بالخوف عند سماع أصوات القصف، وحاليا في أغلب الأوقات لا أتحدث مع أي أحد عندما أكون حزينة".

وتابعت في حديث مع "جسور بوست": "أنام جيدا، ولكن ليس دائماً، لأنني أرى كوابيس ليست جميلة عن الحرب، وأحيانا أشعر بصداع في رأسي ليلا، لقد كنت حزينة لأني تركت منزلي، وانتقلت إلى مركز الإيواء”.

ووفق أرقام رسمية فإن الحرب مع إسرائيل تسببت في نزوح ما لا يقل من مليون و300 ألف شخص من بينهم 350 ألف طفل.

معاناة يعيشها الأهل

تقول عتاب، وهي أم لثلاثة أطفال: "لقد تغيرت حياة أطفالي بشكل كبير بعد الحرب، فمن الناحية النفسية، أصبحوا أكثر قلقًا وانطواءً، ومؤخرا باتوا يعانون مشكلات في النوم في الكثير من الأحيان، ويستيقظون من الكوابيس، كما تبدلت عاداتهم الغذائية إذا بات أكلهم أقل، وفي بعض الأيام، بالكاد يأكلون، ويشكون من الصداع والتعب”.

وتضيف في حديث مع "جسور بوست"، قائلة "أحاول تحفيزهم على التعبير عن مشاعرهم من أجل أن يشاركوا مخاوفهم ولكي نخفف حدتها، خاصة أن الأولاد في مثل هذه الظروف يحتاجون إلى المزيد من الاستقرار والطمأنينة للتعافي والعودة للحياة الطبيعية من الجديد".

وقال محمد العلي، النازح والأب لطفلين، "وضع الأطفال صعب، فنفسيتهم متعبة ويعانون أمراضاً جسدية، فمثلا كانوا يمرون بلحظات من الخوف والقلق بسبب سماع صوت طائرة أو قصف، ولكن أنا وأمهم كنا نسعى لخلق بيئة مستقرة. لقد بات نومهم غير منتظم في بعض الأحيان، ومع ذلك فهم يأكلون بشكل جيد".

وأضاف في حديث مع "جسور بوست"، قائلا "هم مرهقون، ولديهم إحباط، ونحاول أن نشجعهم على الحديث عن مشكلاتهم ولكنهم لا يفعلون ذلك، خاصة أننا لا نعرف كيف نتحدث إليهم في هذه الظروف".

تداعيات آنية ومستقبلية

وفي محاولة لفهم التداعيات النفسية لتجربة الحرب، تشرح المعالجة النفسية نانسي القاروط، أنها تشمل "التداعيات الآنية، وهي اضطرابات مثل القلق، والكآبة، والصدمة النفسية (PTSD). بحيث قد تظهر على الأطفال أعراض مثل الخوف المستمر، والكوابيس، والانعزال الاجتماعي، وصعوبة في التركيز، كما قد يعانون من تدني تقدير الذات ومشكلات في التكيف مع التغيرات الاجتماعية والعاطفية، وقد تتأثر قدراتهم على التعلم والنمو العاطفي، أما الآثار البعيدة المدى للصدمات النفسية فتشمل اضطرابات نفسية مستمرة، وصعوبات في العلاقات الشخصية، ومخاطر على الصحة الجسدية، وتأثيرات على الأداء الاجتماعي والوظيفي، وانتقال الصدمات عبر الأجيال، والآثار السلوكية، ونقل القلق والاكتئاب، ونقل المشاعر من جيل إلى جيل، والتأثير على أنماط الأبوة والأمومة”.

وتتابع القاروط، في حديث مع “جسور بوست”: وتشمل الأعراض الجسدية الدوار وفقدان التوازن، والتعرق المفرط، وصعوبة في التنفس أو شعور بالاختناق، والآلام العضلية أو التوتر عضلي، والغثيان أو الاضطرابات الهضمية، والشعور بالتنميل أو الوخز في الأطراف، والإرهاق الجسدي المستمر، والتبول اللاإرادي، ونوبات الهلع، ودقات قلب سريعة أو غير منتظمة، وزيادة في مستويات التوتر ومشكلات في النوم، والاستجابة الجسدية المفرطة، والشلل الجسدي، ومشكلات في الجهاز الهضمي، والدوار، وزيادة الحساسية للألم”.

وعن الخطوات التي يجب على الأهل اتخاذها للتخفيف عن الأطفال، أوضحت "القاروط" أن "الأهل هم مصدر الأمان بالنسبة للأطفال، ومن الضروري أن يحاول الأهل السيطرة على انفعالاتهم أمام أطفالهم”، موجهة النصح للأهل بأن "يحاولوا أن يشغلوا الطفل باللعب، أو بمساعدتهم في الأعمال المنزلية، أو في العمل التطوعي. كما لا بد من أن يتم تشجيعه على التعبير عن مشاعره وتجنب قمع مخاوفه”.

وتضيف القاروط "من المهم محاولة تجنب متابعة الأخبار طوال الوقت، وألّا يترك الطفل ليشاهد التلفاز. مع التركيز على الحفاظ قدر الإمكان على روتين الطفل، لأن الروتين يجعله يشعر بالأمان”.

وتؤكد القاروط أنه "إذا كان الطفل يعاني من خوف كبير وواضح ويحتاج إلى المساعدة، من خلال مؤشرات مثل عدم النوم، والتبول اللاإرادي، والرجفة، والاصفرار، واضطراب الأكل، فمن الضروري اللجوء إلى اختصاصي”.

وعن الخطوات السريعة الواجب اتخاذها لدعم الأطفال في هذه الحالات، توضح القاروط أنه "يجب أولاً تقديم بيئة آمنة ومستقرة مع التأكد من سلامتهم البدنية، بعد ذلك، تجب التهدئة والطمأنة، ومساعدة الطفل في التعبير عن مشاعره من خلال الاستماع الفعال دون ضغط، ومن المهم أيضًا استخدام تقنيات التنفس والاسترخاء لمساعدتهم على تهدئة أنفسهم، مع تقديم معلومات بسيطة حول ما حدث بطريقة مناسبة لأعمارهم، وفي حال استمرار الأعراض، يجب التوجه للمتخصصين لتقديم الدعم النفسي المناسب. 

وتضيف "يمكن أيضا تعزيز الشعور بالتحكم لدى الطفل من خلال مساعدته في تحديد مشاعره وشرح أن ما يشعر به هو رد فعل طبيعي، كما تجب مراقبة العلامات النفسية المبكرة لأي تغييرات في سلوك الطفل، ومن الضروري توفير الدعم الأسري، والتأكد من أن الطفل يشعر بالأمان من خلال وجود الأشخاص الموثوق بهم حوله. وأخيرًا، تجب مراعاة الخصوصية والاحترام في التعامل مع الطفل، لضمان شعوره بالسلامة والاطمئنان خلال مرحلة التعافي”.

وكشفت منظمة اليونيسف في وقت سابق، عن أن الحرب "قلبت حياة الأطفال رأساً على عقب، وتسبّبت العديد من الحالات في إصابات بدنية شديدة وندوب عاطفية عميقة”.

وتعمل اليونيسف في الميدان لتوفير الدعم النفسي الطارئ لآلاف الأطفال والقائمين على رعايتهم، وقد وفّرت منذ 23 سبتمبر 2024 إسعافاً نفسياً لأكثر من 9,600 من الأطفال والقائمين على رعايتهم، كما قدّمت دعماً مجتمعياً لزهاء 10,000 طفل.

الدعم النفسي للأهل ضرورة

وترى منسقة الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي في جمعية إنقاذ الأطفال في لبنان، دانيال فغالي، أن الكثير من "الأهالي يواجهون تحديات كبيرة في معالجة الاحتياجات النفسية لأطفالهم خلال هذه الأوقات الصعبة. وإن أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو الافتقار إلى المعرفة حول كيفية تحديد علامات الضائقة العاطفية لدى أطفالهم، فعلى الرغم من حرص العديد من الأهالي على دعم أطفالهم، فإنهم قد لا يفهمون تمامًا تأثير الأحداث المؤلمة أو يعرفون كيفية الاستجابة بشكل فعال للاحتياجات العاطفية لأطفالهم”. 

وأضافت فغالي في حديث مع "جسور بوست": "لمعالجة هذه الفجوة، نشارك رسائل الصحة العقلية والدعم النفسي الاجتماعي الرئيسية مع مقدمي الرعاية، وتهدف هذه الموارد إلى تمكين الآباء من خلال تزويدهم بالمعرفة والأدوات اللازمة للتعرف على علامات الضيق وفهم الاستجابات المناسبة، وتعزيز بيئة داعمة لأطفالهم”.

وتابعت: "إن تزويد مقدمي الرعاية (الأهل) بالأدوات اللازمة لإدارة ضائقتهم أمر بالغ الأهمية، لأنه يمكّنهم من الاستجابة لأطفالهم بطريقة أكثر دعمًا وبناءة"، مضيفة أن معالجة الاحتياجات العاجلة للأطفال في لبنان تتطلب جهودًا منسقة لاستعادة أنظمة الدعم التعليمي والرعاية الصحية والتغذوي، فضلاً عن توفير خدمات الصحة العقلية".

الدولة تؤازر الأطفال

وأوضحت الأمينة العامة للمجلس الأعلى للطفولة، ريتا كرم، أن واقع الأطفال في البلاد حالياً مزرٍ على كل الأطفال، سواء الذين نزحوا أو الذين ما زالوا في منازلهم، وهذا أثّر كثيرا على نفسيتهم ودراستهم وحتى على طريقة التواصل في ما بينهم ومع أهاليهم. 

وردا على سؤال حول الأنشطة التي تم العمل عليها لإخراج الأطفال من تأثيرات ما حصل ويحصل، قالت كرم، إن "الجمعيات الأهلية قدمت خدمات كثيرة تتعلق بتنمية المجتمع والبيئة (حيث يوجد الأطفال)، وخاصة الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال، ولكن هناك بعض مراكز الإيواء (خلال فترة الحرب) استفادت من تلك الخدمات، بينما لم تستفد أخرى لأنها لم تتمكن الجمعيات من الوصول إليها”. 

وأضافت "كرم" في حديث مع "جسور بوست": "نحن في وزارة الشؤون الاجتماعية لا نملك فريق عمل يعمل على الأرض مباشرة، بل ننسق مع الجمعيات الأهلية لكي تقوم بهذا الدور، كما أننا ننسق أيضًا مع وزارة الصحة بخصوص الدعم النفسي والاجتماعي، ومع وزارة التربية، لضمان التنسيق والعمل معًا بشكل متكامل”. 

وكان وزير الشؤون الاجتماعية، هيكتور حجار، قد أعلن، قبل وقف إطلاق النار، أن الوزارة "تعمل على تقديم الدعم النفسي في مراكز الإيواء لأنه أولوية”.

الجمعيات تقوم بدورها

وقال رئيس مبادرة "ابني" الاجتماعية، محمود أبو قيس، إن "كل طفل في قلبه غصة، فمثلا، بعض الأطفال لاحظنا أنهم كانوا يعانون من حالات مرضية صعبة، بدون أن يجدوا اهتماما من أي جهة أو جمعية.. بينما لم يكن في وسع أهالي أطفال آخرين شراء الكماليات لهم، بسبب شح الأموال”. 

وأضاف "أبو قيس"، في حديث مع "جسور بوست": "نفذنا في مراكز الإيواء نشاطات عدة وعروضاً للأطفال، وكنا نلاحظ تفاعلا إيجابيا كبيرا من قِبَلهم. كما كنا نمنحهم هدايا لكي يلعبوا بها ويرفهوا عن أنفسهم”.

وبلغت الحصيلة الإجمالية لعدد الشهداء والجرحى منذ بدء الحرب على لبنان حتى قبيل وقف إطلاق النار 3823 ضحية و15859 جريحاً، ووفقا لوزارة الصحة العامة اللبنانية، فإن ما لا يقل عن 185 طفلا كانوا من بين الضحايا، فيما جرح 1206 آخرون.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية