السياسة تنتصر على الحريات.. لماذا تراجعت حقوق الإنسان عالمياً في 2024؟
السياسة تنتصر على الحريات.. لماذا تراجعت حقوق الإنسان عالمياً في 2024؟
شهد العالم أحداثًا سياسية كبرى خلال العام الجاري 2024، والتي كان لها تأثير عميق على أوضاع حقوق الإنسان، حيث تراوحت هذه الأحداث بين التأثيرات السياسية في الولايات المتحدة والأزمات السياسية في إفريقيا والشرق الأوسط، والتي أثرت على حقوق الفئات الأضعف في المجتمعات، لا سيما اللاجئين والنساء والأطفال، ليكشف العام عن مدى التحديات التي تواجه حقوق الإنسان في ظل الصراعات والحروب.
في الولايات المتحدة، مثلت الانتخابات الرئاسية نقطة تحول جوهرية على صعيد سياسة الهجرة، حيث كان من المتوقع أن تعود السياسات المتشددة إذا فاز دونالد ترامب، خصوصًا مع إعادة العمل بسياسة "ابقَ في المكسيك" التي انتقدها العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان، على الرغم من انخفاض أعداد اللاجئين الذين تم إعادتهم قسرًا في ظل حكم ترامب في ولايته الأولى، والتي تجاوزت 70 ألف لاجئ في عامين.
وشهد الوضع تقلبات في ظل كل من الحكومة الديمقراطية بقيادة بايدن وحملة كامالا هاريس التي سعت لإيجاد حلول لمشكلات اللاجئين والحدود، وتشير تقارير وكالة الأمم المتحدة للاجئين إلى أن أكثر من 23 ألف عائلة مهاجرة كانت عالقة على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، وأن إدارة بايدن قد بدأت في اتخاذ خطوات لتقديم بعض الحلول الإنسانية لتخفيف معاناتهم، خاصة في ظل عودة بعض مظاهر الانفتاح.
وفي القارة الإفريقية، كانت الأزمات السياسية أحد أبرز العوامل التي أدت إلى تدهور أوضاع حقوق الإنسان في السودان، ومع استمرار النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع، شهدت البلاد نزوح أكثر من 4.5 مليون شخص بحلول منتصف عام 2024.
وتمثل النساء والأطفال أكثر من 70% من هؤلاء النازحين، مما يعرضهم لمخاطر متزايدة من العنف الجنسي والاستغلال، وتُظهر بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أن هذه الفئة تعاني من أوضاع إنسانية كارثية، حيث تزايدت حالات الاعتداء على النساء والأطفال بنسبة 30% مقارنة بالعام السابق، في ظل غياب آليات الحماية الفعالة، وفي تشاد، التي استقبلت أكثر من مليون لاجئ سوداني، واجهت السلطات تحديات ضخمة في تأمين احتياجاتهم الأساسية، حيث تراجع معدل الدعم الدولي بنسبة 40% مقارنة بالعام الماضي، مما أثر بشكل كبير على قدرة البلاد في توفير الغذاء والرعاية الصحية.
وفي الشرق الأوسط، كان للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تأثير كبير على الحقوق الإنسانية، حيث ارتفعت أعداد الشهداء المدنيين في قطاع غزة إلى نحو 45 ألف شخص، نحو 25% منهم من الأطفال، وفقًا لتقارير منظمة حقوق الإنسان الفلسطينية.
وتزايدت الاعتداءات على الصحفيين في المنطقة، حيث تم تسجيل نحو 200 حادثة اعتداء على الصحفيين في الأراضي الفلسطينية، وهو ما يعكس تدهورًا خطيرًا في حماية حرية التعبير في تلك المناطق، ففي إسرائيل، تزايدت المخاوف من تقييد حرية الصحافة، حيث أثار موقف الحكومة من صحيفة هآرتس انتقادات واسعة، واعتُبرت الإجراءات ضد الصحيفة بمثابة خطوة لتقييد الصحافة المستقلة، ما يهدد مستقبل حرية الإعلام في إسرائيل، في وقت كان فيه العالم يراقب تطورات وضع حرية الصحافة بالشرق الأوسط.
أما في أوروبا، فقد زادت أوضاع اللاجئين صعوبة بسبب صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تبنت سياسات هجرة أكثر صرامة. في إيطاليا، على سبيل المثال، انخفض عدد اللاجئين الذين تم قبولهم بنسبة 40% مقارنة بعام 2023، وفقًا لبيانات وزارة الداخلية الإيطالية.
وخلق ذلك ظروفاً معيشية صعبة للمهاجرين في مراكز الاحتجاز، التي تعاني من الاكتظاظ وعدم كفاية الرعاية، كما في فرنسا، حيث أثار قانون جديد يقيد جمع شمل الأسر اللاجئة انتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان، التي أكدت أن هذا الإجراء يعرض الأسر للانقسام، ما يؤدي إلى زيادة الأعباء النفسية على الأطفال، ويضاعف من معاناتهم.
تدخلات حقوقية أكثر شمولية
وتكشف هذه الوقائع عن أزمة حقوق الإنسان في العديد من مناطق العالم، مما يبرز الحاجة الملحة إلى تدخلات حقوقية أكثر شمولية وفاعلية، وعلى الرغم من الدور المحوري الذي تلعبه الأمم المتحدة في تعزيز حماية اللاجئين والفئات الضعيفة، فإن جهودها في هذا المجال تواجه صعوبات جمة، حيث تواجه تحديات مستمرة في تأمين التمويل اللازم، ففي عام 2024، لم تتلقَّ المفوضية السامية لشؤون اللاجئين سوى 48% من التمويل المطلوب للعام، وهو ما أثر بشكل كبير على قدرتها في تقديم المساعدات الإنسانية على سبيل المثال، تم تقليص برامج المساعدة الغذائية والصحية في العديد من مناطق النزاع، مما زاد من معاناة ملايين اللاجئين والمشردين.
وأشارت منظمة العفو الدولية، وهي إحدى المنظمات البارزة في مجال حقوق الإنسان إلى أن العديد من الدول لم تلتزم بوعودها في تقديم الدعم اللازم للاجئين في ظل الأزمات الحالية. ووفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو 2024، فإن هناك نحو 80 مليون شخص حول العالم يعيشون في حالة نزوح قسري، وتعد الحروب والصراعات السياسية من أبرز الأسباب لذلك.
وكشف تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش أن 75% من هؤلاء اللاجئين لا يتلقون المساعدات اللازمة بسبب نقص التمويل والاهتمام الدولي. ما يزيد من تفاقم المشكلة هو عدم قدرة الدول على التوصل إلى حلول سياسية فعالة لوقف النزاعات أو ضمان العودة الآمنة للاجئين إلى أوطانهم.
تهديدات جديدة
وقال الخبير الحقوقي عبد الله بن زوايده، إن التحولات السياسية وخاصة في الدول التي تمر بمرحلة انتقالية، تعتبر من أكثر العوامل تأثيرًا على أوضاع حقوق الإنسان، ففي كثير من الأحيان، تقود هذه التحولات إلى تقويض الحقوق الأساسية للأفراد، وتحد من حرية التعبير، وتؤدي إلى تدهور الأوضاع الإنسانية، وقد تكون هذه المرحلة فرصة لإرساء مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، إلا أن العواقب تكون مؤلمة بالنسبة لعدد كبير من المواطنين، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال واللاجئين.
وتابع بن زوايده، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أنه في الحالات التي تمر فيها الدول بانتقال سياسي من أنظمة استبدادية إلى نظم ديمقراطية أو بالعكس، تتزايد الانتهاكات الحقوقية وتزداد فرص التعرض للعنف والتمييز والتهميش، خاصة في ظل غياب استقرار المؤسسات السياسية والتشريعية ففي هذه الفترات، تتسم القوانين والأنظمة أحيانًا بالهشاشة، مما يتيح الفرصة للممارسات القمعية والتعدي على الحقوق الأساسية للمواطنين.
وقال إن من أبرز المبادئ الحقوقية التي تتعرض للتهديد في هذا السياق هو مبدأ "حق الفرد في المشاركة في الحياة العامة"، الذي يكفل لكل مواطن الحق في المشاركة في الانتخابات والقرارات السياسية التي تؤثر في حياته، ومع تزايد حالة الاستقطاب السياسي خلال مراحل الانتقال، قد يتم تقويض هذا الحق من خلال فرض قيود على الحرية في التعبير أو القمع الأمني للمعارضة السياسية، فمثلا في فترات الانتقال السياسي في بلدان الربيع العربي أظهرت بعض الدول تعهدات كبيرة بتحقيق الديمقراطية وتحسين أوضاع حقوق الإنسان، إلا أن التوترات السياسية المتزايدة غالبًا ما كانت تؤدي إلى تدهور الوضع الحقوقي.
وذكر الخبير الحقوقي أن الاعتقالات التعسفية تزداد في فترات الاضطراب السياسي، ما يؤدي إلى فقدان الثقة في السلطات السياسية الجديدة.. في تلك الفترات الانتقالية، لا تُعد السياسات القمعية غالبًا إلا ردود فعل سريعة تجاه الأزمات، حيث تكون الحكومة الجديدة غير قادرة على ترسيخ مؤسسات حقوقية راسخة، وتتعقد الأمور أكثر عندما تتداخل التحولات السياسية مع فترات النزاع المسلح أو الطوارئ، كما يحدث في العديد من البلدان التي شهدت انقلابات عسكرية أو حروبًا أهلية حول العالم، في مثل هذه السياقات يكون للأزمات الإنسانية آثار بعيدة المدى على حقوق الأفراد، حيث يتعرض المدنيون، وخاصة النساء والأطفال، إلى العنف والتهجير القسري، يتناقض هذا مع المبادئ الأساسية التي أقرّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تكفل الحماية من التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية.
وأكد: تُعرّض التحولات السياسية في مثل هذه البيئات العنيفة العديد من الأفراد لانتهاك هذه الحقوق الأساسية، حيث لا توفر الحكومات أحيانًا الحماية الكافية لهؤلاء الأشخاص، بالإضافة إلى ذلك تسهم العوامل الاجتماعية والاقتصادية في تعقيد المشهد الحقوقي في ظل الانتقالات السياسية، ويُمكن أن تؤدي الأزمات الاقتصادية الناتجة عن التحولات السياسية إلى تدهور مستوى المعيشة، ما يعمّق التفاوتات الاجتماعية ويزيد معدلات الفقر، ويمكن أن يتفاقم هذا الوضع ويؤدي إلى انتهاك الحق في مستوى معيشي مناسب، وهو حق أساسي من حقوق الإنسان يتطلب توفير الغذاء، والماء، والتعليم، والرعاية الصحية في بعض الحالات، وتفتقر الدول التي تمر بمرحلة انتقال سياسي إلى الموارد اللازمة لدعم رفاه المواطنين، ما يسهم في تفشي الفقر والتهميش.
وأشار إلى ضرورة النظر إلى التأثيرات السلبية للأزمات السياسية على حقوق الفئات الضعيفة، مثل الأقليات العرقية والدينية، الذين قد يتعرضون للتمييز والعنف. ففي كثير من الأحيان، تكون الأقليات أول من يتحمل تبعات التحولات السياسية التي تخلق بيئة مواتية للاضطهاد. الحق في المساواة وعدم التمييز، الذي يعد من أبرز المبادئ في حقوق الإنسان، يُنتهك بشدة في هذه الحالات. ففي بيئة مضطربة، قد تكون الأقليات عرضة لخطاب الكراهية والتعصب، مما يؤدي إلى تزايد التوترات الاجتماعية وتهديد السلم الأهلي.
وأتم: يُظهر تأثير الأوضاع السياسية الانتقالية على حقوق الإنسان أن التحولات السياسية قد تفتح المجال لتحسين الأوضاع الإنسانية، إلا أنها في الوقت ذاته تحمل مخاطر كبيرة تؤدي إلى تدهور الحقوق الأساسية، خاصة في الدول التي تمر بمراحل هشة في الانتقال.. تتطلب هذه المرحلة توجيهًا حقوقيًا مستمرًا ودعماً دوليًا لضمان حماية حقوق الإنسان في سياقات متقلبة.
تحديات وآليات قانونية
وقال الخبير القانوني، فهمي قناوي، إن الأوضاع السياسية المضطربة غالبًا ما تؤدي إلى انتهاكات حقوقية جسيمة، وهو ما يفرض على الدول اتخاذ تدابير قانونية تضمن حماية حقوق الأفراد والحد من الأضرار التي قد تنجم عن هذه التحولات، لذلك يصبح من الضروري تفعيل التشريعات الدولية والمحلية لضمان أن التحولات السياسية لا تؤدي إلى تدهور حقوق الإنسان، أولى الخطوات المهمة تكمن في التزام الدول بالقوانين الدولية التي تحمي الحقوق الأساسية للأفراد، ويعتبر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسي أداة محورية في ضمان عدم تعرض الأفراد للاحتجاز التعسفي أو التعذيب أثناء فترات الأزمات السياسية.
وتابع قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، تنص المادة 9 من العهد على أن لكل فرد الحق في الحرية والأمان الشخصي، وهي قاعدة يجب على الدول التمسك بها مهما كانت الظروف السياسية، بالإضافة إلى ذلك ينبغي على الدول أن تعزز من استقلالية القضاء وتدعيم النظام القضائي لضمان حقوق الأفراد في جميع الأوقات، خاصة في فترات التحولات السياسية، والمحاكم المستقلة تلعب دورًا أساسيًا في توفير العدالة للفئات المتضررة من الأزمات السياسية، كما أن المحاكم الدولية مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تمثل آليات قانونية هامة لمحاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، تعتبر هذه المحاكم أدوات أساسية لضمان المساءلة، خاصة في البلدان التي تعاني من نقص في الشفافية أو النزاهة القضائية.
واستطرد: يجب على الدول وضع تشريعات تضمن حماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية خلال الفترات الانتقالية، يشمل ذلك ضمان وصول الأفراد إلى الرعاية الصحية والتعليم والعمل، وهي حقوق منصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مشيرا إلى أن ضمان استمرار هذه الحقوق في الأوقات المضطربة هو أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، من جانب آخر، تعتبر حماية الأقليات أمرًا حيويًا في فترات التحولات السياسية، حيث يواجه الأفراد المنتمون إلى هذه الفئات تهديدات أكبر نتيجة لتغيير النظام، يتطلب ذلك سن قوانين صارمة ضد التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو أي أساس آخر.
وأشار الخبير القانوني إلى أنه من المهم تفعيل دور المجتمع المدني ووسائل الإعلام في مراقبة حالة حقوق الإنسان خلال فترات الانتقال السياسي، فينبغي أن تضمن الدول حرية الصحافة وحرية التعبير، خاصة في فترات التحولات السياسية، لأن وسائل الإعلام المستقلة تعد عاملاً أساسيًا في كشف الانتهاكات وتقديم المعلومات بشكل موثوق، وقد أثبتت التجارب التاريخية أن فرض قيود على الصحافة في مثل هذه الفترات يؤدي إلى تفشي الفساد وتزايد الانتهاكات.
وأتم: تظل حماية حقوق الإنسان خلال فترات الانتقال السياسي مسؤولية جماعية تقتضي تفعيل التشريعات المحلية والدولية، وتعزيز استقلالية القضاء، وتوفير الحماية للأقليات، وضمان حرية التعبير، إن الامتثال للمعايير الدولية لحقوق الإنسان هو السبيل الوحيد لضمان أن التحولات السياسية لا تؤدي إلى تراجع حقوق الأفراد، بل على العكس؛ تسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والعدالة