«بانسحابات من الصحة والمناخ».. واشنطن تتراجع خطوة للخلف في معركة الإنسانية

«بانسحابات من الصحة والمناخ».. واشنطن تتراجع خطوة للخلف في معركة الإنسانية
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

في خطوة أثارت جدلًا عالميًا واسعًا، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، ما شكَّل زلزالًا على المستويين الصحي والبيئي، جاءت هذه القرارات في ظل توتر العلاقات بين الإدارة الأمريكية والمؤسسات الدولية، وانعكست تداعياتها على مسارات التعاون الدولي في مواجهة الأزمات العالمية.

وأعربت منظمة الصحة العالمية عن أسفها العميق إزاء القرار الأمريكي، واصفةً إياه بالخطوة المؤسفة التي تُهدد الجهود الدولية في التصدي للأوبئة والأمراض، فيما اعتبر المتحدث باسم المنظمة، طارق ياساريفيتش، أن انسحاب الولايات المتحدة يُلقي بظلال من الشك على استمرارية البرامج الصحية التي تُعتمد عليها العديد من الدول النامية.

ووفقًا لتقارير المنظمة، قدَّمت الولايات المتحدة تمويلًا بقيمة 1.284 مليار دولار بين عامي 2022 و2023، وهو ما يمثل 15% من إجمالي ميزانية المنظمة، ما يجعل واشنطن المانح الأكبر والأكثر تأثيرًا.

وأثار الانسحاب الأمريكي تساؤلات حول مستقبل التنسيق الدولي في مجال الصحة العامة، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، يعتمد أكثر من 60% من سكان الدول النامية على برامج الرعاية الصحية التي تُمولها منظمة الصحة العالمية جزئيًا، فغياب التمويل الأمريكي سيُهدد برامج التطعيم، خصوصًا في إفريقيا وجنوب شرق آسيا، حيث ساهمت المنظمة في تطعيم أكثر من 400 مليون طفل خلال العقد الماضي ضد أمراض مثل الحصبة وشلل الأطفال.

اتفاقية باريس للمناخ

وعلى صعيد المناخ، فإن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس يُمثل تهديدًا مباشرًا للجهود العالمية الرامية إلى مكافحة تغير المناخ الاتفاقية، التي انضمت إليها نحو 200 دولة، تهدف إلى الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى أقل من درجتين مئويتين مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية.

وأكدت الأمم المتحدة أن الولايات المتحدة، التي تُعد ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الكربون عالميًا بنسبة 15% من الإجمالي السنوي، كان يُفترض أن تلعب دورًا رياديًا في تحقيق أهداف الاتفاقية.

وبرر ترامب انسحاب بلاده من الاتفاقية بأنها تُحمِّل الاقتصاد الأمريكي تكاليف غير مبررة، في حين أن دولًا أخرى مثل الصين والهند، وفق رأيه، لا تتحمل نفس الأعباء، لكن تقريرًا صادرًا عن وكالة الطاقة الدولية أوضح أن الاستثمار في الطاقة النظيفة يُمكن أن يُسهم في خلق ملايين الوظائف عالميًا، فضلًا عن تعزيز الاقتصاد الأخضر، مع ذلك، شهدت الاستثمارات الأمريكية في الطاقة المتجددة انخفاضًا بنسبة 10% منذ إعلان الانسحاب، مما يعكس تأثير السياسات المتذبذبة على مستقبل الاستدامة.

وأثار القرار انتقادات واسعة من قبل حلفاء الولايات المتحدة، فالاتحاد الأوروبي وصف الخطوة بأنها ضربة قاسية للجهود الدولية المشتركة، مشيرًا إلى أن العالم لا يمكنه تحمل المزيد من التأخير في مواجهة التغير المناخي، كما أعربت الصين والهند عن قلقهما إزاء التداعيات البيئية التي ستنجم عن تقليص الالتزامات الأمريكية.

من جانبه، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن ثقته في أن المدن والولايات الأمريكية ستواصل اتخاذ إجراءات طموحة لتحقيق أهداف المناخ، مشيرا إلى أن انسحاب الحكومة الفيدرالية لا يعني بالضرورة تراجعًا كاملًا، حيث تلتزم العديد من الشركات والمؤسسات المحلية بخطط لخفض الانبعاثات.

على المستوى الداخلي، أثارت قرارات ترامب جدلًا كبيرًا في الأوساط السياسية والاقتصادية الأمريكية، انتقد معارضو القرار تأثيره السلبي على ريادة الولايات المتحدة العالمية، حيث اعتبروا أن الانسحاب يُضعف موقف واشنطن في المفاوضات الدولية ويمنح الصين فرصة لملء الفراغ القيادي، كما أشار خبراء الصحة العامة إلى أن الانسحاب من منظمة الصحة العالمية يُهدد الأمن الصحي الوطني، حيث يعتمد الأمريكيون بشكل غير مباشر على شبكات المراقبة العالمية التي تديرها المنظمة.

من الناحية الاقتصادية، حذر محللون من أن الانسحاب من اتفاقية باريس قد يُكلف الاقتصاد الأمريكي خسائر على المدى الطويل، فتقرير صادر عن مركز التقدم الأمريكي أشار إلى أن التأثيرات المناخية، مثل الأعاصير والفيضانات، تسببت بخسائر اقتصادية تجاوزت 600 مليار دولار خلال العقد الماضي. وبدون استراتيجيات فعالة للتخفيف من آثار تغير المناخ، قد تتضاعف هذه التكاليف في المستقبل.

احتجاجات شعبية

وبالنسبة للردود الشعبية، فقد شهدت الولايات المتحدة احتجاجات واسعة من قبل منظمات المجتمع المدني والنشطاء البيئيين. 

وعبَّر العديد من العلماء وخبراء البيئة عن قلقهم من أن تراجع الالتزام الأمريكي قد يُشجع دولًا أخرى على تقليد هذا النهج، مما يُضعف الزخم الدولي المطلوب لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ويُثير انسحاب الولايات المتحدة مخاوف بشأن استقرار النظام الدولي المتعدد الأطراف، وتُعد منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس جزءًا أساسيًا من هذا النظام الذي يهدف إلى تعزيز التعاون بين الدول في مواجهة التحديات المشتركة، فغياب الولايات المتحدة عن هذه المؤسسات يُهدد بتقويض الثقة في قدرة المجتمع الدولي على العمل معًا.

لكن رغم هذه التداعيات السلبية، يرى بعض المحللين أن الانسحاب قد يُشكل فرصة لإعادة تقييم دور المؤسسات الدولية، في ظل الانتقادات الموجهة إلى منظمة الصحة العالمية، يبرز سؤال مهم حول الحاجة إلى إصلاحات تُعزز الشفافية والمساءلة داخل المنظمة، كما أن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس قد يدفع الدول الأخرى إلى تعزيز تعاونها لتعويض الفراغ الأمريكي.

تداعيات خطيرة

وقال أستاذ علم الاقتصاد، رشاد عبده، إن قرار انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ ليس مجرد انسحاب إداري أو سياسي، بل هو فعل يعكس توجهاً أوسع نحو فك الارتباط مع الجهود الدولية التي تركز على حماية الحقوق الأساسية للبشر في الصحة والبيئة، هذا القرار يعيد تشكيل مشهد حقوق الإنسان على المستوى العالمي، حيث يتجلى التأثير الاقتصادي والاجتماعي له في النسيج الحي لحياة الأفراد، خاصة في الدول النامية والهشة التي تعتمد على التعاون الدولي لتعزيز حقوق الإنسان الأساسية.

وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان، وانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية يهدد مباشرة هذا الحق، فالولايات المتحدة ليست مجرد مساهم مالي كبير، فهي تلعب دوراً رئيسياً في دعم مشاريع حيوية، مثل برامج التطعيم العالمية ومبادرات القضاء على الأمراض المعدية، وغياب هذه الموارد يخلق فجوة هائلة في القدرة على مكافحة الأمراض، خاصة في الدول الفقيرة، عندما تتراجع الإمكانات المالية، يتأثر الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الفجوة الصحية بين الأغنياء والفقراء، ويضعف التزام العالم بالمساواة الصحية كحق إنساني عالمي.

واسترسل “يؤدي هذا الانسحاب إلى تضييق الخناق على شبكات الأمان الاجتماعي التي تعتمد عليها الدول في مواجهة الأزمات الصحية، جائحة كوفيد-19 كانت دليلاً صارخاً على أهمية التضامن الدولي في مواجهة الكوارث، فالانسحاب الأمريكي يرسل رسالة خاطئة للدول الأخرى، مفادها أن القضايا الصحية يمكن أن تكون رهينة للمصالح السياسية. هذا التوجه يهدد بخلق انقسامات جديدة في عالم يعاني بالفعل من عدم التكافؤ، حيث تتحول الصحة إلى سلعة محكومة بالسوق بدلاً من أن تكون حقاً مضموناً لجميع البشر”.

وقال إن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ يشكل تهديداً مباشراً لحقوق الأجيال الحالية والمستقبلية في بيئة نظيفة ومستدامة، هذه الاتفاقية، التي تعد بمثابة إطار دولي ملزم للتعامل مع أزمة التغير المناخي، تعتمد بشكل كبير على التزام الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة، التي تعد من أكبر الملوثين في العالم، فغياب الولايات المتحدة من هذه الجهود يضعف الإرادة السياسية الجماعية، مما يؤدي إلى تسريع معدلات الاحتباس الحراري وتهديد حقوق الإنسان الأساسية المرتبطة بالبيئة مثل المياه النظيفة، والغذاء، والمأوى.

وعن تبعات القرار، قال إنها تتجلى بوضوح في المجتمعات الأكثر ضعفاً، فالتغير المناخي لا يفرق بين الحدود الجغرافية، لكنه يضرب بشدة في المناطق التي تعاني من نقص في البنية التحتية وغياب أنظمة حماية اجتماعية فعالة على سبيل المثال، فارتفاع درجات الحرارة وازدياد حدة الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والجفاف يؤدي إلى نزوح جماعي للسكان، مما يخلق أزمات إنسانية جديدة تتعلق باللجوء والتشريد، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فإن عام 2024 كان الأكثر حرارة على الإطلاق، وهو ما ينذر بتفاقم هذه الأزمات إذا لم يتم اتخاذ تدابير جماعية صارمة.

وأشار إلى أن هذا الانسحاب يعكس تحولات اقتصادية واجتماعية داخلية، الخطوة تعبر عن رغبة في تقليص الالتزامات المالية الدولية لصالح إعادة توجيه الموارد محلياً، لكن الحقيقة أن الانسحاب لا يخدم حتى المصالح الداخلية بشكل مستدام، فالتغير المناخي والأوبئة لا تعترف بالحدود، والانسحاب يضعف قدرة الولايات المتحدة على قيادة الجهود الدولية التي تصب في مصلحتها الاستراتيجية، ويسهم هذا القرار في تآكل دور الولايات المتحدة كقوة عالمية في الدفاع عن حقوق الإنسان، ويضعف قدرتها على التأثير الإيجابي في النظام الدولي.

وأتم: انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ ليس مجرد حدث سياسي عابر، بل هو تحول استراتيجي يحمل تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة على حقوق الإنسان. هذا القرار يهدد بتقويض المكتسبات التي تحققت بشق الأنفس في مجالي الصحة والبيئة، ويعيد تشكيل المشهد الدولي بطريقة تجعل حقوق الإنسان عرضة للتقلبات السياسية، فالمستقبل يتطلب أكثر من أي وقت مضى الالتزام بتعزيز التعاون الدولي لضمان أن تكون حقوق الإنسان في صميم أي استراتيجيات اقتصادية واجتماعية.

زلزال اجتماعي

وقال أستاذ علم الاجتماع، طه أبو الحسن، إن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ يُلقي بظلال ثقيلة على الفرد والمجتمع على المستويات المحلية والدولية، هذه الخطوة ليست مجرد فعل سياسي أو اقتصادي، بل هي زلزال اجتماعي يهدد بتقويض الأطر التي بُنيت عليها مفاهيم التضامن والاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب في مواجهة التحديات المشتركة.

وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست": على مستوى الفرد، يؤدي هذا القرار إلى زعزعة شعور الأمان الصحي والبيئي.. فالأفراد الذين يعيشون في المجتمعات الأكثر هشاشة، وخاصة في الدول النامية، سيواجهون تداعيات مباشرة من تراجع الدعم المقدم من منظمة الصحة العالمية.. والبرامج التي تعتمد عليها هذه المجتمعات لتوفير اللقاحات الأساسية ومكافحة الأمراض المعدية ستتأثر بشكل كبير، هذا يعني أن العائلات قد تُحرم من خدمات أساسية مثل تطعيم الأطفال أو معالجة الأمراض التي يمكن الوقاية منها بسهولة.. وبالنسبة للفرد في هذه المجتمعات، تصبح الحياة اليومية معركة دائمة مع عدم اليقين الصحي والخوف من تفشي الأمراض.

وعن الدول المتقدمة، أوضح أن الانسحاب من منظمة الصحة العالمية يُظهر ضعف الروابط الدولية في مواجهة الكوارث الصحية التي لا تعترف بالحدود، فالمواطن الأمريكي على سبيل المثال قد لا يشعر بالتأثير المباشر في البداية، لكنه مع مرور الوقت قد يجد نفسه محاصرًا بمخاطر صحية ناتجة عن غياب التنسيق الدولي.. والأوبئة التي تُرصد وتُدار عالميًا لن تجد نفس الدعم، مما يعرض الجميع لخطر أكبر.

وقال إن هذا يعني زيادة معدلات التلوث وارتفاع درجات الحرارة العالمية، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على حياة الأفراد، فارتفاع منسوب البحار، والتصحر، والكوارث الطبيعية المتزايدة لن تؤثر فقط على السكن والغذاء، بل ستخلق أزمة لجوء مناخي واسعة النطاق، فالأفراد الذين يُجبرون على ترك أراضيهم بسبب الفيضانات أو الجفاف يواجهون خسائر اقتصادية ونفسية هائلة، مما يعمق الشعور باليأس والإقصاء، ويساهم هذا القرار في خلق حالة من الاستقطاب والانقسام، فالانسحاب من هذه الاتفاقيات يعزز الشعور بأن المصالح الوطنية تأتي على حساب القيم الإنسانية المشتركة، وفي الداخل الأمريكي، ستزداد الفجوة بين مناصري هذه القرارات ومعارضيها، مما يؤدي إلى تصعيد التوترات الاجتماعية والسياسية، هذا الاستقطاب يمكن أن يُضعف النسيج الاجتماعي ويؤدي إلى تآكل الثقة بين المواطنين والمؤسسات.

وأتم: دوليًا، تُعمق هذه الخطوة الشعور بعدم العدالة بين الدول الغنية والفقيرة، فالدول النامية التي تعتمد على الدعم الدولي لتطوير مجتمعاتها الصحية والبيئية ستواجه صعوبة أكبر في تحقيق الاستقرار.. هذه الانقسامات تُشجع على تبني سياسات انعزالية مماثلة من قِبَل دول أخرى، مما يُضعف النظام العالمي المبني على التعاون، والنتيجة هي مجتمعات أكثر انعزالًا، وأفراد أكثر شعورًا بالتهميش والإقصاء.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية