حين تصبح الطفولة في قلب المعركة.. كيف تسرق الحروب حق الأطفال في البقاء؟

حين تصبح الطفولة في قلب المعركة.. كيف تسرق الحروب حق الأطفال في البقاء؟
أطفال فلسطين يواجهون الجوع والمرض في غزة - أرشيف

في عالمٍ يموج بالصراعات والأزمات، يقف الأطفال في الصفوف الأمامية لدفع أثمانٍ باهظة، حيث تتلاشى حقوقهم الأساسية في الرعاية الصحية والتغذية السليمة أمام تعقيدات النزاعات والفقر المدقع. 

في هذه البيئات المتأزمة، تصبح صحة الأطفال ليست مجرد أولوية مهملة، بل أزمة إنسانية تتطلب تدخلاً عاجلاً وشاملاً.

وتُظهر البيانات أن أكثر من 473 مليون طفل، أي واحد من كل ستة أطفال عالميًا، عاشوا في مناطق نزاع في عام 2024، وهو رقم يعكس تضاعفًا مقلقًا مقارنة بالتسعينيات، حين كانت النسبة تقترب من واحد من كل 13 طفلًا. 

وتسلط هذه الإحصائيات المأساوية، الصادرة عن منظمة "أنقذوا الأطفال" وموثقة في تقارير الأمم المتحدة، الضوء على تأثير الحروب الحديثة التي لم تعد تُخاض في الجبهات فقط، بل اقتحمت البيوت والمدارس والمستشفيات، ودفعت الأطفال ليكونوا ضحايا للصراع، محرومين من الحماية، والعناية، والبيئة الآمنة للنمو.

ويعكس هذا العدد الكبير حجم الفشل الدولي في حماية حقوق الطفل، كما يكشف عن العجز المؤسساتي في التعامل مع الأزمات الممتدة، فالأطفال الذين يعيشون في مناطق النزاع غالبًا ما يُحرمون من الرعاية الصحية الأساسية بسبب تدمير المنشآت الطبية، أو منع وصول المنظمات الإنسانية، أو انهيار الأنظمة الصحية المحلية. 

سوء التغذية.. القاتل الصامت

في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة اليونيسف عام 2024، يعاني أكثر من 34 مليون طفل دون سن الخامسة من فقر غذائي، ويعيش نحو 60% من الأطفال في فقر غذائي، أي أنهم لا يحصلون سوى على مجموعتين غذائيتين أو أقل يوميًا، بينما يعاني 20% من فقر غذائي حاد، هذه الأرقام لا تعني فقط ضعفاً في التغذية، بل تهديدا مباشرا لحياة الطفل ونموه العقلي والجسدي.

ولا يقتصر سوء التغذية على الشعور بالجوع، هو نقص في البروتينات، والفيتامينات والمعادن الضرورية لنمو الدماغ، لتقوية جهاز المناعة، ولنمو العظام. ونتيجة لذلك، يصبح الأطفال عرضة للأمراض المزمنة، ويتراجع أداؤهم الدراسي، ويزداد خطر الوفاة، خاصة في السنوات الخمس الأولى من العمر. 

وفي البيئات الفقيرة والمضطربة، يُستبدل الحليب الصناعي بالماء المُحلى، ويُقدم الخبز الجاف بدلًا من الخضراوات والفواكه، وتصبح البطون المنتفخة والأجساد الهزيلة هي الصورة الأكثر حضورًا.

انهيار نظم الرعاية الصحية

لا تقتصر المعاناة على نقص الغذاء، بل تمتد إلى انهيار شبه كامل في نظم الرعاية الصحية، وخاصة برامج التطعيم التي كانت تُشكل جدار الحماية الأول ضد الأمراض المعدية. 

وأصدرت منظمة الصحة العالمية في 2024 تقريرًا حذرت فيه من الانخفاض الخطير في معدلات التطعيم في الدول التي تشهد نزاعات مسلحة.

ففي السودان، على سبيل المثال، ارتفع عدد الأطفال غير المحصنين من 110,000 في عام 2021 إلى أكثر من 700,000 في عام 2023. هذا التراجع المأساوي جعل البلاد معرضة لخطر تفشي أمراض مثل الحصبة، والدفتيريا، وشلل الأطفال، التي يمكن منعها بلقاحات بسيطة، لكن الحروب لا تميز بين البالغين والأطفال، وبين الجنود واللقاحات، فالمرافق الصحية تُقصف، وسلاسل التبريد تتعطل، والفرق الطبية تُهدد.

ويُضاف إلى ذلك أزمة ندرة الأدوية الأساسية، وتوقف برامج الأمومة والطفولة، وتراجع خدمات الطوارئ. 

وفي بعض المناطق، يُولد الأطفال في منازل بلا كهرباء، وتُجرى العمليات القيصرية تحت ضوء الهاتف، ويُلف المواليد الجدد في بطانيات مستعملة بدلًا من الحضّانات.. وتصبح الولادة، التي يفترض أن تكون بداية لحياة جديدة، مخاطرة قد تنتهي بفقدان الحياة.

تأثير النزاعات على الأطفال

السودان هو مرآة مأساوية لوضع الطفولة في زمن الحروب الممتدة، فمنذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، يحتاج أكثر من 30 مليون شخص للمساعدات الإنسانية، بينهم 16 مليون طفل. 

يعيش الأطفال في السودان في واقع يتشكل من الخوف، والجوع، والنزوح، ووفقًا لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن أكثر من 1.3 مليون طفل معرضون لخطر المجاعة.

لكن الأخطر من ذلك هو ما يتم توثيقه من انتهاكات جسيمة ضد الأطفال: تجنيدهم في الصراعات المسلحة، استخدامهم كدروع بشرية، تعرضهم للعنف الجنسي، وفقدانهم للهوية بسبب التهجير القسري. 

وقد وثقت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" ممارسات وحشية يتعرض لها الأطفال، خاصة في المناطق النائية التي لا تصلها التغطية الإعلامية.

وفي غزة التي تعتبر مثالا حيا على الأثر المدمر للنزاعات الطويلة على الأطفال، منذ أكتوبر 2023، يعيش سكان القطاع، ومنهم أكثر من مليون طفل، في ظروف إنسانية كارثية، وتقارير اليونيسف تشير إلى أن 90% من أطفال غزة يعانون من فقر غذائي حاد، حيث يقتصر نظامهم الغذائي على أقل من مجموعتين غذائيتين في اليوم، وقد أدى هذا النقص إلى انتشار سريع لأمراض نقص الفيتامينات، وتأخر النمو، والإصابة بالأنيميا.

الرعاية الصحية في غزة منهارة، المستشفيات تعمل بأقل من 30% من قدرتها، وتعاني من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات، الأطفال المصابون بأمراض مزمنة، مثل السكري وأمراض القلب، لا يجدون العلاج، فيما يُترك الخدّج للموت بسبب نقص الحضّانات، ويزيد الوضع تعقيدًا تدمير المدارس، مما يحرم الأطفال من التعليم والدعم النفسي.

الأثر النفسي والاجتماعي

بعيدًا عن الجوع والمرض، يعاني الأطفال من آثار نفسية عميقة؛ فالمشاهد اليومية للعنف، وفقدان الأهل، والتنقل القسري، وانعدام الأمان، كلها عوامل تخلق جروحًا غير مرئية في نفسية الطفل، وأكدت دراسة حديثة لليونيسف أن أكثر من 60% من الأطفال في مناطق النزاع يظهرون أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل الأرق، والقلق، واضطرابات السلوك.

وفي المجتمعات التي تعاني من الفقر والنزاع، لا تتوفر برامج الدعم النفسي، ويُترك الطفل ليحاول التكيف مع واقع قاسٍ يفوق إدراكه. أحيانًا، يتحول إلى شخص عنيف، أو ينسحب من المدرسة، أو يختار الهجرة الخطرة بحثًا عن بيئة أفضل، فيقع ضحية للاتجار أو الغرق.

وقال الحقوقي الأردني البارز كمال مشرقي، إن الطفولة لا تملك رفاهية الانتظار، وإن حياة الأطفال في مناطق النزاع لم تعد تُقاس بالسنين، بل بعدد الأزمات التي يعيشونها. وأكد أنه "بينما ينشغل العالم بالتحالفات الجيوسياسية والصراعات السياسية، يولد أطفال في منطقتنا ويكبرون في ظلال الدمار، بين القصف والنزوح، بين الجوع والمرض، بين فقر مدقع وغياب شبه تام لأبسط مقومات الرعاية". 

وأضاف مشرقي في تصريحات لـ"جسور بوست": "أولئك الأطفال لا يعيشون الطفولة كما ينبغي، بل يعيشون واقعا يوميًا من الخوف، وتهديدًا دائمًا لحقهم بالحياة، ولحقهم بأن يكونوا ببساطة أطفالًا".

أوضاع إنسانية كارثية

وأشار مشرقي إلى أن الأطفال في مناطق الصراع يعانون من أوضاع إنسانية كارثية تقوّض حاضرهم وتغتال مستقبلهم، فهم يتعرضون لانهيار في خدمات الرعاية الصحية، ويُحرمون من برامج التطعيم الأساسية، ويقعون فريسة لسوء تغذية حاد، وسط بيئات منهارة تعجز عن تقديم أبسط وسائل الوقاية والعلاج. 

وأضاف: "إن ما نشهده اليوم هو ليس فقط فشلاً في حماية الطفولة، بل تواطؤا صامتا يشرعن العنف ضد الأطفال، ويجعل من مأساتهم خبراً عابراً على شريط أخبار مزدحم".

واسترسل قائلاً: "في ظل انهيار البنية التحتية في معظم مناطق النزاع، تصبح أجساد الأطفال مسرحًا مفتوحًا للأوبئة، وتغدو عقولهم ساحات مهجورة لا تعرف التعليم ولا الأمان. وما يزيد الوضع مأساوية هو تفاقم النزوح القسري، الذي يُجبر العائلات على ترك منازلها، ليعيش الأطفال في مخيمات تفتقر إلى الشروط الإنسانية الأساسية، ما يعرضهم لمزيد من الإهمال والعنف".

وشدد مشرقي على أن القانون الدولي الإنساني لا يترك مجالًا للغموض حين يتعلق الأمر بحماية الأطفال، مشيراً إلى أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين ألزمت أطراف النزاع بتوفير الحماية والرعاية للأطفال، وضمان وصول الغذاء والدواء إليهم، والامتناع عن تجنيدهم أو استخدامهم في الأعمال الحربية.

وأكد أن السلطة القائمة بالاحتلال، مثل الحالة الفلسطينية، تتحمل مسؤوليات قانونية واضحة بموجب القانون الدولي، لا سيما اتفاقية جنيف الرابعة، في حماية الأطفال وتوفير الرعاية الصحية ومنع تعريضهم للخطر. وأضاف بحزم: "إن أي سياسة ممنهجة تؤدي إلى تجويع السكان أو عرقلة إيصال المساعدات أو حرمان الأطفال من التطعيم تُعدّ جريمة حرب واضحة وصريحة بموجب نظام روما الأساسي".

عودة الأمراض القاتلة

ولفت مشرقي إلى أن غياب برامج التطعيم، في مناطق النزاع، أدى إلى عودة أمراض قاتلة مثل شلل الأطفال والحصبة، ما يُعد مؤشراً مخيفاً على الانهيار الصحي، وخطراً وجوديًا على مستقبل الطفولة. واستطرد: "حين يُحرم الطفل من حقه في الصحة، فهو لا يُحرم من العلاج فقط، بل من الحياة ذاتها، من فرصة أن يكون جزءًا من مستقبل مجتمعه".

ودعا إلى منح المنظمات الإنسانية حق الوصول غير المشروط للأطفال في مناطق النزاع، ورفع كافة العوائق البيروقراطية والسياسية أمام إيصال المساعدات. وأكد أن استخدام الحصار أو تجويع المدنيين كسلاح حرب، ليس فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، بل جريمة في حق الضمير الإنساني. وقال: "لا يمكننا أن نصمت أمام إغلاق الممرات الإنسانية، فكل ساعة تأخير تعني أرواحًا تُزهق بصمت، وصرخات تُخنق تحت الأنقاض".

وشدد مشرقي على أن الاستجابة لا يجب أن تكون جزئية أو مؤقتة، بل استراتيجية متكاملة تقوم على أربع ركائز: الوقاية، من خلال حل النزاعات وتعزيز التنمية؛ والاستجابة السريعة عبر توفير الغذاء والرعاية الصحية والتعليم؛ والتعافي وإعادة الدمج النفسي والاجتماعي للأطفال المتضررين؛ والمساءلة الصارمة لمحاسبة من تورطوا في جرائم ضد الأطفال.

وقال: "إن المستقبل لا يُبنى بالتمنيات، بل بحضن طفل نمنحه الحياة، إنقاذ طفل هو إنقاذ أمة، حماية طفل هي حجر الأساس في بناء السلام.. مستقبل منطقتنا لا يُرسم في غرف الاجتماعات، بل في عيادة مفتوحة، في مدرسة تنبض بالعلم، في قلب أم تطمئن أن صغيرها لن يموت من الجوع أو المرض".

وأضاف الحقوقي الأردني: "الأطفال في مناطق النزاع ليسوا مجرد أرقام في التقارير، إنهم وجوه، وأسماء، وأحلام صغيرة تنام تحت الخوف، وتحلم أن تستيقظ على صباح بلا قصف.. كل طفل يُنقذ هو انتصار للإنسانية، وكل صمت عن انتهاك هو خيانة لهذه الإنسانية".

وختم مشرقي تصريحاته، قائلاً: "لقد آن الأوان لأن نرفع صوتنا فوق صوت الدبابات، أن تكون حماية الطفولة هي الهدف الأسمى، أن تُوضع حقوق الأطفال في صميم كل استراتيجية سياسية وإنسانية. فالطفولة ليست ترفًا يُؤجل، بل هي المستقبل الذي لا يحتمل التأجيل. وإن لم نحمل الطفولة في قلوبنا، ونذرف دمعة على كل طفل محروم، فلن يكون للعدالة معنى، ولا للسلام جدوى".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية