اتفاقيات بلا ضمير.. أوروبا توصد حدودها أمام اللاجئين وتدير ظهرها لحقوقهم

اتفاقيات بلا ضمير.. أوروبا توصد حدودها أمام اللاجئين وتدير ظهرها لحقوقهم

تفاقمت أزمة اللاجئين خلال العقد الأخير، لتتحول من مسألة إنسانية بحتة إلى ورقة ضغط سياسي في علاقات الدول، لا سيما بين الاتحاد الأوروبي ودول الجوار الجنوبي مثل تركيا وليبيا وتونس والأردن. 

ومع تزايد التدفقات البشرية الهاربة من النزاعات والفقر والاضطهاد في سوريا والعراق واليمن، تعمقت الحاجة إلى فهم ما إذا كانت الاتفاقات الثنائية الموقعة مع هذه الدول تُراعي البعد الإنساني أم تُوظَّف لحماية حدود أوروبا فقط.

واتبعت الدول الأوروبية منذ عام 2016 نهجًا متسارعًا لعقد اتفاقات مع دول عبور اللاجئين، في محاولة للحد من وصول المهاجرين إلى أراضيها. 

وجاء الاتفاق الأوروبي-التركي كنموذج صارخ لهذا التوجه، إذ تضمن تمويلًا بقيمة 6 مليارات يورو لتركيا مقابل منع تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا، مع وعود بتسهيلات تأشيرية ومساعدات إنسانية، لكن على الأرض، تُرك اللاجئون في تركيا يعانون من صعوبات اقتصادية وغياب خدمات كافية، فيما بقيت الأغلبية في حالة قانونية غير مستقرة.

تجاهل حقوق الإنسان

فعّلت بروكسل تعاونًا مباشرًا مع السلطات الليبية منذ عام 2017 لمراقبة السواحل ومنع قوارب المهاجرين من الوصول إلى أوروبا. 

وقدّمت أوروبا دعمًا لخفر السواحل الليبي، وسط تقارير منظمات حقوقية مثل "العفو الدولية" التي وثّقت في 2021 مئات الانتهاكات، من تعذيب واغتصاب إلى الاتجار بالبشر داخل مراكز احتجاز تديرها مجموعات مسلحة دون رقابة قضائية أو إنسانية.

وأبرمت الحكومة التونسية سلسلة من التفاهمات مع الاتحاد الأوروبي للحد من الهجرة غير النظامية عبر المتوسط، لكن دون ضمانات حقيقية لحقوق المهاجرين. 

وتُرك اللاجئون العابرون عبر تونس في حالة من التهميش، بلا تصاريح قانونية أو حماية من الاستغلال والعنف، لا سيما مع تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين في الخطاب السياسي المحلي.

واستقبل الأردن منذ اندلاع الحرب السورية أكثر من 1.3 مليون لاجئ، ما يمثل نحو 20% من عدد السكان، بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. 

ورغم أن عمان استفادت من اتفاقات تمويلية أوروبية لدعم البنية التحتية، فإن اللاجئين ما زالوا يواجهون صعوبات في الحصول على تصاريح عمل، مما يُجبرهم على الانخراط في السوق غير النظامي، في ظل ارتفاع كلفة المعيشة وضعف الخدمات الصحية والتعليمية. 

ويكشف المراقبون أن الضغوط الأوروبية دفعت الأردن مؤخرًا إلى تقليص استقبال اللاجئين، ما أدى إلى تفاقم أوضاع اللاجئين داخل المخيمات وخارجها.

مبدأ اللجوء العادل

أثّرت هذه الاتفاقات سلبًا على مبدأ "الحق في اللجوء" كما نصّت عليه المواثيق الدولية، إذ منعت وصول الكثيرين إلى الأراضي الأوروبية لتقديم طلبات اللجوء، ففي تركيا، لا يحصل اللاجئون على حماية دولية كاملة، كما يُحرمون من فرص العمل القانونية والرعاية الصحية الكافية. 

وفي ليبيا، يُسجَن اللاجئون قسرًا ويتعرضون لانتهاكات صارخة، في غياب أي آلية فعّالة لمساءلة المسؤولين أو تحسين شروط الاحتجاز.

انتهجت دول أوروبية سياسات ترحيل للاجئين المرفوضين نحو دول العبور أو بلدانهم الأصلية، دون النظر في المخاطر المحدقة بهم، ففي ليبيا، يُعاد اللاجئون إلى مراكز الاحتجاز حيث التعذيب والانتهاك الممنهج. 

أما في سوريا، فقد رُصدت حالات لمعارضين أعيدوا قسرًا وتعرضوا للاعتقال أو الاختفاء القسري. ويُظهر الواقع أن ترحيل اللاجئين في ظل هذه الاتفاقات لا يضمن الحد الأدنى من الحماية، بل يُعيدهم إلى بؤر الخطر والعنف.

حوّلت دول مثل تركيا وبعض الدول العربية ملف اللاجئين إلى ورقة ضغط للحصول على تنازلات اقتصادية أو سياسية من الاتحاد الأوروبي. فاستخدمت أنقرة أزمة اللاجئين للضغط في ملفات الانضمام إلى الاتحاد أو تخفيف القيود الجمركية. 

وتعاملت تونس وليبيا والأردن مع الاتفاقات كفرص تمويل أكثر منها التزامات حقوقية، ما ساهم في تحويل اللاجئين إلى أدوات تفاوضية بدلاً من معاملتهم كضحايا نزاع يستحقون الحماية والدعم.

وركّزت السياسات الأوروبية في السنوات الأخيرة على البعد الأمني وتحصين الحدود، أكثر من التزامها بالقيم الإنسانية، وبدلاً من فتح قنوات لجوء شرعي أو إنشاء برامج إعادة توطين فعلية، اختارت الحكومات الأوروبية تعزيز الشراكات الأمنية مع أنظمة غير ديمقراطية أو دول تعاني من أزمات داخلية، ما يُشكّل انتهاكًا غير مباشر لحقوق الإنسان.

وتكشف دراسة الاتفاقيات الأوروبية مع دول العبور عن ازدواجية واضحة في المعايير بين حماية الحدود واحترام حقوق اللاجئين، وبينما تتفاخر أوروبا بحماية "قيمها"، تُترك ملايين الأرواح على حدودها الجنوبية عرضة للجوع والعنف واللامبالاة. 

ويبدو أن المسألة لم تعد تتعلق باللاجئ كإنسان، بل كرقم في معادلة أمنية واقتصادية، يتغير حسب الحاجة، ويُستخدم كورقة على طاولة المفاوضات.

مقايضة الكرامة الإنسانية

انتقدت المهندسة هبة أسعد، المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بشدة السياسات الأوروبية المتعلقة بإدارة ملف اللجوء، ووصفتها بأنها تحوّل الإنسان إلى رقم، وتُقايض الكرامة الإنسانية بمصالح سياسية وأمنية.

وأضافت أسعد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن نقل المسؤولية الإنسانية والأخلاقية إلى دول الجوار، كما يحدث في الاتفاقيات الثنائية مثل "الاتفاق الأوروبي-التركي" أو التفاهمات مع الأردن ولبنان، لا يُمثّل حلاً عادلاً ولا مستدامًا، بل يُحوّل دول المنطقة إلى مناطق عازلة تُستَخدَم كدروع بشرية لصدّ تدفقات اللجوء إلى أوروبا. 

وتابعت: الأردن، الذي يتحمل عبئًا هائلًا باستضافته لأكثر من 1.3 مليون لاجئ سوري –بمن فيهم غير المسجلين– يتلقى دعماً لا يرقى لحجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية، بل يُفرض عليه شروط تمويل صارمة تحت عنوان “التعاون”.

وتطرقت أسعد إلى التناقض بين الخطاب الإنساني الأوروبي والممارسات الفعلية على الأرض، مشيرة إلى أن كرامة اللاجئ تُنتهك حين يُزجّ به في مخيمات مغلقة تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة، ويُمنع من العمل القانوني بذريعة حماية سوق العمل المحلي، بينما تغلق أوروبا حدودها وتُنظّم مفاوضاتها وفقاً لأولوياتها الداخلية.

وأشارت إلى أن الاتفاقيات والمساعدات الدولية غالباً ما تصبّ في مصلحة المانحين والمستثمرين، وليس في مصلحة اللاجئين أنفسهم.. "تُصمم هذه الاتفاقيات بناءً على حسابات سياسية وأمنية واقتصادية أوروبية، بينما تُحصر مشاركة الجهات المحلية وتُفرض شراكات حصرية مع منظمات أجنبية، مما يُضعف قدرة المجتمع المحلي على التأثير وابتكار حلول تراعي الواقع"، حسب قولها.

وعبّرت أسعد عن قلقها من اللغة الرقمية التي تتعامل بها بعض المؤسسات الدولية مع الإنسان اللاجئ، محذّرة من أن تحويله إلى "رقم" يُجرَّد من هويته الفردية ويُعمّق الشعور بالعجز والتهميش، موضحة أنه “عندما يُنظر للاجئ كعبء اقتصادي أو تهديد أمني، تُصبح المساحات المتاحة له في المجتمع أضيق، ويُفتح الباب أمام خطابات الكراهية أو حتى أشكال من الاستغلال”.

وأضافت أن اللاجئين في الأردن غالباً ما يُصوَّرون كسبب للأزمات الاقتصادية، مثل البطالة وارتفاع الأسعار، ما يُؤسس لبيئة قابلة للانفجار اجتماعياً.. وتحدثت عن ظاهرة انخراط بعض اللاجئين في سوق العمل غير النظامي، بسبب صعوبة الحصول على تصاريح العمل أو شروط "الكفيل"، فيما يعزف الشباب الأردني عن بعض الوظائف التي باتت تُربط ضمنياً باللاجئين.

وفي ما يتعلق بآليات التشاور المحلي، انتقدت أسعد تهميش المجتمع المدني الأردني وجمعيات اللاجئين أنفسهم في أي حوار حول السياسات أو الاتفاقيات الدولية الخاصة باللجوء، وقالت إن المفاوضات غالباً ما تُدار في غرف مغلقة، وتُفرض الأولويات عبر شروط التمويل، بينما تبقى مشاركة الناشطين أو مندوبي الجمعيات، وإن حدثت، شكلية دون أثر ملموس في صياغة السياسات.

وختمت حديثها بالإشارة إلى الوضع المعقد للاجئين الذين يُعادون إلى الأردن بعد رفض طلباتهم في أوروبا، سواء عبر ما يُسمى "برامج العودة الطوعية" أو عبر قرارات ترحيل، فهؤلاء، يواجهون فراغاً قانونياً، ووصمة اجتماعية، ومحدودية في الوصول إلى الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم. 

ورغم محاولات بعض المنظمات المحلية تقديم الدعم النفسي، فإن الموارد المحدودة تمنعها من الوصول إلى جميع المحتاجين.

وقالت "نحن بحاجة إلى سياسة لجوء تُبنى على مبدأ الكرامة والعدالة، لا على إدارة الأرقام وتبادل الأعباء.. لا يمكن أن يكون الإنسان بنداً تفاوضياً"، اختتمت أسعد.

 



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية