من صندوق الإغاثة إلى قيود الجغرافيا.. كيف تستخدم إسرائيل الوجبة سلاحاً للتهجير؟

من صندوق الإغاثة إلى قيود الجغرافيا.. كيف تستخدم إسرائيل الوجبة سلاحاً للتهجير؟
أطفال غزة يتزاحمون للحصول على الطعام - أرشيف

بينما يقف قطاع غزة على حافة المجاعة، وتئن الأرض تحت أقدام النازحين الذين فرّوا من ألسنة النار والركام، تُباغت مؤسسة ناشئة تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية"، مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، المشهد الإغاثي بخطة تثير من القلق أكثر مما تبشر بالحل، في خطوةٍ تُنذر بتفكيك النظام الأممي القائم على الحياد والمهنية، وتحويل المساعدات الإنسانية إلى ورقة ضغط سياسية تُشهر في وجوه الجائعين.

وفي قطاعٍ بات فيه قرابة مليوني شخص في حالة "جوع كارثي" وفق تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي في مايو 2024، وُصفت غزة بأنها من أكثر المناطق معاناة من انعدام الأمن الغذائي على وجه الأرض.

وتسعى مؤسسة غزة الإنسانية، التي لم يُعلن عن وجودها إلا في مطلع هذا العام، إلى تجاوز الأمم المتحدة وتفكيك بنيتها اللوجستية والإغاثية التي راكمت خبرات عقود، لتنصّب نفسها جهة توزيعٍ بديلة تعمل من خلال 4 مراكز محروسة عسكريًا قرب نقاط تفتيش إسرائيلية. 

وتحظى المؤسسة التي تقول إنها تهدف للوصول إلى أكثر من مليون فلسطيني، بدعم مباشر من الحكومة الإسرائيلية، في ظل رفض مطلق من الوكالات الإنسانية الكبرى التي حذرت من تحول الغذاء إلى أداة إخضاع.

ورغم الغموض الذي يحيط بتمويل المؤسسة -حيث أعلنت أنها حصلت على التزامات بأكثر من 100 مليون دولار من حكومة أوروبية لم تُفصح عنها- فإن التركيبة الأمنية لقيادتها، والتي تضم متعاقدين عسكريين أمريكيين سابقين، تُثير المخاوف من طبيعة الدور غير الإنساني الذي قد تلعبه.

وأسوأ ما في هذه الخطة ليس فقط موقع المراكز، والتي تقع قرب مواقع عسكرية في رفح ونتساريم، بل الشرط الضمني الذي تفرضه على المدنيين لعبور مناطق ساخنة أو خاضعة لسيطرة الاحتلال للوصول إلى حصصهم الغذائية، ما يُحيل المساعدة من طوق نجاة إلى اختبارٍ محفوف بالأخطار، وقد يفقد الطفل حياته من أجل كيس طحين.

الانتهاك لا يقف عند حق الحياة فقط، بل يطول الكرامة، فالفلسطيني الذي كان يطرق أبواب مراكز الأونروا أو الصليب الأحمر، بات مطالبًا بالمرور على نقاط تفتيش، والخضوع لتقنيات التعرف إلى الوجه، وربما استجواب أمني، قبل أن يُقرّر ما إذا كان يستحق وجبته اليومية أم لا. وهنا تتجلى أشد صور الإهانة الإنسانية، حيث يصبح الطعام امتيازًا وليس حقًا.

وتؤكد الأمم المتحدة أن المساعدات لا يمكن أن تُدار خارج مظلة دولية متوافق عليها، حيث نص القانون الدولي الإنساني، في اتفاقيات جنيف، على أن توزيع الإغاثة يجب أن يتم على أساس الحاجة فقط، دون تمييز، ودون استغلال سياسي أو عسكري، لذلك فإن إنشاء كيان بديل خارج هذا الإطار، يُعد خرقًا لمبدأ الحياد، ويقوض الثقة الدولية في النظام الإنساني برمّته.

استخدام الطعام سلاحاً

تُشير منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن استخدام الطعام سلاحاً هو جريمة بموجب القانون الدولي، ويشكّل سابقة خطِرة قد تُنسف معها حيادية المساعدات، وتُحوَّل المؤسسات الإنسانية إلى أدوات في يد الاحتلال. وهو ما أكدته أيضًا شاينا لو من المجلس النرويجي للاجئين، بقولها إن هذه الخطة تعرض الوكالات للمساءلة الأخلاقية والقانونية، إن هي شاركت في نظام غير محايد.

القلق المشروع أيضًا يتعلّق بالفئات الأضعف، وهم الأطفال، المرضى، الحوامل، وذوو الاحتياجات الخاصة، ففي حالة فشل الخطة أو تعثرها، سيكون هؤلاء أول من يُستثنى، في ظل غياب ضمانات دولية أو آلية رقابة مستقلة. وحتى الآن، لم يُكشف عن وجود رقابة أممية على عمل المؤسسة، ما يعني أنها تعمل خارج مظلة المساءلة الدولية.

وشهدت غزة في الشهرين الماضيين ارتفاعًا صادمًا في معدلات الوفاة بسبب الجوع، حيث وثّق مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وفاة 28 طفلًا في مستشفى كمال عدوان بسبب الجوع ونقص الرعاية، فضلًا عن تقارير طبية تؤكد تسجيل حالات وذمة غذائية في شمال القطاع، وهي علامات واضحة على مجاعة بدأت تتفشى.

وبينما تُشير بيانات مفوضية الأمم المتحدة إلى أن نحو 75% من سكان غزة نزحوا مرة أو أكثر منذ أكتوبر، فإن أي خطة تفتقر للمرونة والمساءلة، وتُجبرهم على التنقل دون ضمانات أمنية، تُعد إخلالًا جسيمًا بحقوقهم الأساسية.

آلية توزيع المساعدات

حذّر الباحث في الشؤون الآسيوية، عامر تمام، من خطورة الانزلاق وراء أي آليات بديلة لتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة خارج إطار الأمم المتحدة، مؤكّدًا أن أي جهة تحاول تجاوز المؤسسات الأممية، إنما تُقوّض النظام الدولي وتفتح الباب أمام فوضى إنسانية وأخلاقية غير مسبوقة.

وأوضح تمام، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الموقف الأممي، ممثلًا بالأمين العام للأمم المتحدة، كان واضحًا وحازمًا في هذا السياق، حيث شدّد مرارًا على عدم التعاون مع أي آلية خارج تلك المتبعة من قبل مؤسسات الأمم المتحدة المختصة، والتي تمتلك الخبرة التاريخية والبنية التنظيمية اللازمة لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، دون ابتزاز أو انتقائية، وبما يصون كرامة المدنيين المتضررين. 

وأشار إلى أن محاولة فرض آلية إسرائيلية - أميركية جديدة لتوزيع المساعدات ما هي إلا التفاف على العمل الإنساني المنظم وتحويله إلى أداة ضغط واستغلال.

ونبّه تمام إلى خطورة تموضع مراكز توزيع المساعدات بالقرب من المواقع العسكرية، مؤكدًا أن ذلك لا يُعدّ خطأ عفويًا أو لوجستيًا، بل يندرج ضمن إطار متعمد يعرّض المدنيين العزّل لخطر القتل المباشر. 

وعدّ تمام إسرائيل لا توظّف الغذاء وسيلة إغاثة، بل كسلاح حربي يُستخدم لإعادة تشكيل الخارطة السكانية في غزة، حيث تعمل إسرائيل على تقسيم القطاع إلى مناطق جغرافية خاضعة للسيطرة عبر مراكز غذائية محددة، بما يتيح لها نقل السكان إلى أماكن بعينها، غالبًا ما تكون قريبة من الحدود أو ضمن مناطق ضيقة ومحاصرة كالممر الواقع بين محور موراج ومحور صلاح الدين في رفح.

وشدد الباحث عامر تمام، على ضرورة العودة العاجلة إلى الآليات الأممية المُعتمدة لإدخال وتوزيع المساعدات، محذرًا من أن استمرار الوضع الحالي سيقود إلى مجاعة شاملة وقتل جماعي للآلاف. وأضاف: "ما نشهده في غزة ليس فشلًا إنسانيًا فحسب، بل تقويضًا للنظام الدولي بأسره. إسرائيل لا تحترم أي قانون أو ميثاق دولي، وتتمتع بحماية أميركية تمنع محاسبتها، وهذه سابقة خطِرة تُهدد العدالة العالمية".

وختم بالقول: "لسنا الآن بصدد مناشدة لوقف الحرب، بل فقط نطلب أن يُسمح للناس أن يأكلوا. أن يُسمح للأطفال بالحياة. أن يُكسر هذا الحصار المجنون، قبل أن تنكسر إنسانيتنا جميعًا".

الحقوق تُدهس تحت الحصار

قال المحلل السياسي الفلسطيني المقيم في أوكرانيا، محمد العروقي، إن ما يسمى بمؤسسة "غزة الإنسانية" لا تحمل من اسمها شيئًا، بل تمثل مفارقة مؤلمة بين المسمى والمضمون، فهي تفتقر إلى أدنى مقومات العمل الإنساني المهني، ولا تملك الشرعية أو الكفاءة اللازمة لتوزيع المساعدات في ظروف استثنائية كالتي يعيشها قطاع غزة. 

وأكد العروقي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الجهات الوحيدة القادرة فعليًا على الوصول إلى كافة المناطق وتوزيع المساعدات بشكل عادل وآمن، هي المنظمات الدولية ذات الخبرة والتاريخ الطويل، وعلى رأسها الأمم المتحدة ووكالة الأونروا التي تُعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين.

وأضاف أن ما تفعله إسرائيل إجراء مسيّس يخلو من الشرعية، يتجاوز المؤسسات الدولية، ويتجاهل المواثيق الإنسانية التي تنظّم عمل المساعدات في مناطق النزاع، فبدلًا من تسهيل وصول الغذاء إلى المدنيين، يتم إجبار أهالي قطاع غزة على السير لعشرات الكيلومترات في ظروف أمنية كارثية من أجل الحصول على صندوق طعام، هذا السلوك، لا يمكن وصفه إلا بالإهانة لكرامة الإنسان ومحاولة منظمة لتقويض حقوقه الأساسية.

وأوضح العروقي، أن عمليات الإغاثة التي جرت وفقًا لمعايير إنسانية معترف بها، مثل "عملية الفارس الشهم" الإماراتية، تمكّنت من الوصول إلى فئات واسعة من السكان في غزة دون تمييز، ودون توظيف الإغاثة لأهداف أمنية أو سياسية. أما ما يحدث حاليًا، فيمثّل عملية توزيع مشروطة، تُستخدم فيها المساعدات كأداة ضغط وإخضاع، ويجري حصر المستفيدين في مناطق محددة لأسباب تتعلق بما تسميه إسرائيل "الاعتبارات الأمنية".

وأشار المحلل الفلسطيني، إلى أن غالبية سكان قطاع غزة هم من اللاجئين، ويخضعون لحماية وإشراف مباشر من الأمم المتحدة ووكالة الأونروا، وتجاوز هذه الهيئات يعني تقويض النظام الدولي الإنساني بكامله، محذرا من أن ما تقوم به إسرائيل والولايات المتحدة في هذا الصدد ليس مجرد انحراف إداري أو أزمة توزيع، بل خطة ممنهجة لإعادة التوزيع الجغرافي داخل القطاع، بما يخدم أجندات تهجير قسري محتملة.

وأردف قائلًا، إن تركيز نقاط توزيع المساعدات في مناطق بعينها، مع إبعادها عن التجمعات السكانية الرئيسية، ليس إجراءً عبثيًا، بل قد يكون تمهيدًا لفرض واقع جديد في غزة، قوامه الحصار داخل الحصار، وتحويل الغذاء إلى أداة للهندسة الديمغرافية. وهذا يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية عاجلة.

واختتم العروقي، حديثه بالتأكيد على أن آلية توزيع المساعدات الحالية قد فشلت منذ لحظة إعلانها، وأن السبيل الوحيد لضمان وصول آمن وعادل للمساعدات هو العودة إلى الآليات المعترف بها دوليًا، سواء عبر الأمم المتحدة مباشرة أو من خلال جمعيات محلية في غزة تعمل تحت إشرافها، لضمان شمولية التوزيع وعدم التمييز، واحترام كرامة الإنسان الفلسطيني في ظل ما يواجهه من محنة غير مسبوقة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية