قيود تشريعية وضغوط اقتصادية.. تحديات في مواجهة حرية الصحافة بالعالم العربي
قيود تشريعية وضغوط اقتصادية.. تحديات في مواجهة حرية الصحافة بالعالم العربي
واصلت حرية الصحافة في الدول العربية، منذ مطلع عام 2024، السير على حافة الأزمات السياسية والأمنية، حيث اصطدم العمل الصحفي بقيود هيكلية متجذرة، لم تفلح المبادرات الإصلاحية المحدودة في زحزحتها، وبينما سعت بعض الأنظمة إلى فتح نوافذ ضيقة للتعبير الحر، بقيت هذه الجهود استثناءات لا تقوى على كسر قبضة التضييق الشامل.
أظهر تصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود" الصادر في مايو 2024، بحسب ما أفادت به المنظمة، أن المنطقة العربية لا تزال تُعد من بين الأسوأ عالميًا من حيث مؤشرات حرية الصحافة، حيث حافظت معظم الدول على مراكز متأخرة تتجاوز المرتبة 100 من أصل 180 دولة، وتجلّت الفجوة العميقة بين النصوص الدستورية التي تكرّس حرية التعبير، والتطبيقات الفعلية التي تخضع لمعايير أمنية صارمة وتحكم سياسي مباشر.
وسجلت موريتانيا، بحسب التقرير، تحسنًا طفيفًا بتقدمها 5 مراكز، مستفيدة من إصلاحات قانونية عززت استقلالية الصحافة ووسّعت حق الوصول للمعلومة، وفي بالمقابل، تراجعت تونس بشكل لافت إلى المرتبة 121 بعد ملاحقات قضائية طالت صحفيين مستقلين، ما أنهى موجة الانفتاح النسبي التي شهدتها سابقًا، كما واصل المغرب تموضعه في المرتبة 144، رغم محاولات تطوير الإعلام المستقل، وسط انتقادات واسعة لغياب الضمانات القانونية الكفيلة بحماية الصحفيين، حسبما أورد مرصد حرية الإعلام في شمال إفريقيا.
واستمر تأثير القوانين الموروثة من حقب سابقة في تأزيم واقع الصحافة، حيث استُخدمت تهم فضفاضة كـ"نشر أخبار كاذبة" و"المساس بهيبة الدولة" لقمع الصحفيين، حيث سجّلت الجزائر 35 محاكمة لصحفيين بتهم متعلقة بحرية التعبير، بينما وُجِّهت انتقادات واسعة للتدخل السياسي في تطبيق القوانين الإعلامية المعدّلة.
ولم يكن الاستقرار الأمني والسياسي في الأردن كافيًا لحماية الصحافة من الضغوط، إذ كشفت نقابة الصحفيين الأردنيين أن 58% من العاملين في القطاع تعرضوا لمحاولات تدخل في أثناء عملهم، كما ظل قانون الجرائم الإلكترونية، ولا سيما مادته 11 المعدّلة، أداة فعالة في كبح الحريات الرقمية.
تحوّل إعلامي رقمي
بيّن استطلاع الباروميتر العربي لعام 2024، أن 72% من الشباب العربي يعتمدون على وسائل التواصل كمصدر رئيسي للأخبار، في مقابل 45% فقط للإعلام التقليدي، كما تراجعت الثقة بالإعلام الرسمي إلى 38%، مقابل 62% للإعلام الأجنبي، في مؤشر واضح على التحوّل نحو منصات رقمية أكثر حرية وحداثة.
وبرزت صحافة المواطن كظاهرة صاعدة، حيث بات الأفراد يبثون الأخبار مباشرة دون المرور عبر مؤسسات تقليدية، وأكد تقرير "فريدوم هاوس" أن الاعتماد على الفيديوهات القصيرة كمصدر إخباري ارتفع بنسبة 60% مقارنة بالعام السابق، ما أربك حسابات الرقابة التقليدية وأدخل السلطات في سباق جديد مع تكنولوجيا لا تعرف سقفًا.
وأمام هذا الواقع، سنت 10 دول عربية، منها الجزائر والمغرب، تشريعات جديدة لتنظيم النشر الإلكتروني، تضمّنت مواد تجرّم نشر "أخبار كاذبة" بالسجن حتى خمس سنوات، وهو ما أثار جدلًا واسعًا حول التوازن بين التنظيم وحرية التعبير.
وفي المقابل، بذلت دول خليجية مثل الإمارات والسعودية جهودًا لتطوير المشهد الإعلامي، حيث نظمت الإمارات منتدى الإعلام العربي بحضور 3000 إعلامي ومفكر، ما عزز من صورتها كمركز للحوار الإعلامي في المنطقة فيما أطلقت السعودية برامج تدريبية لأكثر من 1500 صحفي بالشراكة مع وكالات عالمية.
ورصد البنك الدولي انخفاض عائدات الصحف الورقية بنسبة 40% منذ 2019، ما أدى إلى إغلاق عشرات الصحف وتسريح نحو 35% من العاملين فيها في بعض الدول، كما أسهمت القيود على التمويل الخارجي في إضعاف المؤسسات الإعلامية المستقلة، واضطُر بعضها إلى تعديل نهجه التحريري تحت ضغط التهديد بالإغلاق.
وسجلت نقابة الصحفيين العراقيين 18 حالة اعتداء جسدي وأربع حالات اغتيال لصحفيين في 2024، لتتصدّر العراق قائمة الدول العربية الأخطر على الصحفيين، متقدمة على سوريا واليمن من حيث حجم الحوادث الفردية المسجلة.
تحديات وقوانين مقيدة
قال الإعلامي مايكل فارس، إنه تناول تأثير قانون تنظيم الصحافة والإعلام على حرية الصحافة في المنطقة العربية، خلال دراسته لدبلوم الإعلام الرقمي في جامعة القاهرة والتي قدمها بعنوان "رؤية نقدية لقانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018"، مشيرًا إلى أن الدول العربية لم تحقق تقدمًا ملموسًا في مؤشرات حرية الصحافة، بل إن أغلبها ظل في مؤخرة التقييمات العالمية لعام 2024.
وأوضح فارس، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن من بين الدول التي حققت تحسنًا طفيفًا في هذا المجال تأتي الكويت التي حققت تقدمًا نسبيًا في مؤشر الحرية الإعلامية.
وأوضح أن تأثير البنية القانونية والقضائية على مصير الصحفيين المستقلين في المنطقة العربية لا يمكن إغفاله، إذ إن العديد من القوانين المتبعة في دول المنطقة تتسم بالغموض والمصطلحات الفضفاضة التي تُستخدم أحيانًا للحد من حرية التعبير.
وأشار فارس إلى تحول واضح في سلوكيات الجمهور العربي تجاه الإعلام المحلي والإعلام الخارجي، حيث انخفضت الثقة في الإعلام الرسمي بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، مضيفًا: “لم يعد الإعلام المحلي يحظى بثقة الكثير من المواطنين، بسبب الرقابة المشددة على المعلومات والاعتماد على البيانات الرسمية التي تفتقر إلى التحليل العميق”، وبدأ الإعلام الخارجي، خاصة المنصات الإخبارية المستقلة، في استقطاب جمهور أكبر من متابعي الأخبار في العالم العربي، نظرًا للقدرة على تقديم تفاصيل وتحليلات معمقة للأحداث، وكذلك ربط القرارات المحلية بالخريطة الإقليمية والدولية.
وأكد أن تقرير "حرية الإنترنت 2024" الصادر عن منظمة "فريدوم هاوس" يشير إلى أن زيادة الرقابة على الإنترنت من قبل الحكومات العربية قد أسهمت في تراجع الثقة في الإعلام المحلي.
وأشار فارس إلى الدور المهم الذي تلعبه النقابات الصحفية في الدفاع عن حرية التعبير وحماية الصحفيين، رغم التحديات التي تواجهها في المنطقة، مبينًا أن النقابات الصحفية تقوم بتنظيم فعاليات وندوات توعوية لدعم الصحفيين، فضلاً عن تقديم الدعم القانوني والمادي للصحفيين، إلا أن هذه النقابات في العديد من الدول العربية تفتقر إلى القدرة الفعلية على التأثير في الحكومة من أجل إجراء إصلاحات تشريعية حقيقية تضمن حماية الصحفيين.
وختم فارس تصريحاته، قائلًا: “من المؤسف أن البيئة الإعلامية في الدول العربية تظل مليئة بالتحديات، حيث إن حرية الصحافة لا زالت في كثير من الأحيان تُقيد بالقوانين والتشريعات التي تضع الصحفيين في مواجهة مع السلطات”، مؤكدًا- رغم التحسن الطفيف في بعض الدول- أن حرية الصحافة في المنطقة العربية بحاجة إلى مزيد من الإصلاحات الجذرية لتحقيق بيئة إعلامية أكثر استقرارًا وحرية.
تحديات حرية الصحافة
أكدت الإعلامية التونسية ريم بن خليفة، أنه من الصعب الحديث عن تحسن ملحوظ في حرية الصحافة في معظم الدول العربية خلال 2024، بل على العكس، فإن الواقع يشير إلى تراجع خطر في حرية الإعلام.
وأشارت بن خليفة، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن الصحافة في تونس تواجه تحديات غير مسبوقة منذ عام 2011، حيث تعيش الصحافة التونسية اليوم تضييقًا واسعًا، بدأ بالتحريض على الصحفيين والمفكرين، وصولًا إلى الزج ببعضهم في السجون بسبب آرائهم الحرة أو حتى تدوينات نقدية.
وتابعت بن خليفة بالقول إن الأنظمة الحاكمة في عدد من الدول العربية باتت تستهدف الصحافة والصحفيين بشكل مباشر، مدفوعة بخوفها من كشف الفساد السياسي وتضليل الرأي العام، ما يعرقل عمل الصحافة الحرة ويهدد مصير الصحفيين.
وأضافت أن الصحافة العربية اليوم تواجه تحديات عدة، أهمها تراجع الفضاء الإعلامي وعدم وجود بيئة قانونية تشجع على حرية التعبير.
وبخصوص البنية القانونية والقضائية، قالت بن خليفة، إن العديد من الدول العربية، بما في ذلك تونس، تفتقر إلى تشريعات تحمي الصحفيين وتضمن لهم حرية التعبير، في تونس، على سبيل المثال، أكدت خطورة "المرسوم 54" الذي يتضمن قوانين فضفاضة تستهدف الصحافة تحت مسميات مثل "نشر الأخبار الكاذبة" و"المساس بهيبة الدولة"، وهي عبارات غير محددة بشكل دقيق، ما يجعلها قابلة للتأويل، ويصبح الصحفي أو المواطن عرضة للملاحقة القانونية بسبب آراء قد لا تتماشى مع مصلحة السلطة الحاكمة.
وفيما يخص النقابات الصحفية، أوضحت بن خليفة، أن لهذه النقابات دورًا محوريًا في الدفاع عن حقوق الصحفيين وحمايتهم من المضايقات القانونية والسياسية. وأكدت أن النقابات هي خط الدفاع الأول في حماية الصحفيين، سواء عبر الضغط القانوني أو التضامن مع الصحفيين المعتقلين أو المضطهدين، لكن هذا الدور لا يتم بشكل موحد بين مختلف الدول العربية، إذ إن بعض النقابات الصحفية تكون مخترقة من السلطات الحاكمة، أو تتعامل معها بشكل مباشر وعلني، ما يقلل من فاعليتها وقدرتها على حماية الصحفيين وحرياتهم.
وقالت إن هناك نقابات أخرى تلتزم بسياسة الخوف والتردد ولا تقوم بدورها كما ينبغي، الأمر الذي يجعل تأثيرها محدودًا في مواجهة قمع السلطة.
وأضافت بن خليفة، أن التحديات التي تواجه الصحافة والصحفيين في المنطقة العربية تتطلب تكاتف الجهود بين الصحفيين والنقابات والمنظمات الحقوقية الدولية لتوفير بيئة آمنة تدعم حرية الإعلام وتضمن حقوق الصحفيين في التعبير عن آرائهم دون تهديد أو خوف، مؤكدة أن المستقبل القريب سيحمل مزيدًا من التحديات، خاصة مع تزايد الرقابة على وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، إلا أن الصحفيين المستقلين والنقابات الصحفية هم الأمل في استمرار النضال من أجل حرية الصحافة والتعبير في المنطقة العربية.