الفتنة في السويداء.. كيف تحرق الطائفية ما تبقى من نسيج المجتمع السوري؟
الفتنة في السويداء.. كيف تحرق الطائفية ما تبقى من نسيج المجتمع السوري؟
تتميّز سوريا بتنوّع ديني ومذهبي يُعدّ من بين الأغنى في المنطقة، حيث يشكّل السُنّة غالبية السكان، إلى جانب العلويين والدروز والمسيحيين والإسماعيليين وأقليات صغرى، فضلًا عن التنوع القومي بين العرب والأكراد والشركس والتركمان وغيرهم، هذا المزيج الثقافي والتاريخي كان مصدرًا لقوة المجتمع السوري وتعدديته، قبل أن تتحوّل الهويات الطائفية تدريجيًا من إطارٍ للتعايش إلى خطوط هشّة استُخدمت سياسيًا.
منذ خمسينات القرن الماضي، سعت الحكومات المتعاقبة في سوريا، عبر شعارات القومية العربية، لتقليص دور الهويات الدينية، إلا أن وصول حافظ الأسد إلى السلطة في السبعينات وما تلاه من صعود النخبة العلوية في مؤسسات الدولة والأمن، أسهم في تعزيز توترات خفية بقيت كامنة لعقود.
ومع اندلاع النزاع السوري عام 2011، تحوّلت هذه التوترات إلى انقسامات حادة وظّفتها أطراف محلية وإقليمية سلاحاً لتثبيت النفوذ وإعادة رسم المشهد السياسي بالقوة.
تقارير صادرة عن هيومن رايتس ووتش ولجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا تشير إلى أن استخدام الخطاب الطائفي أسهم في تأجيج العنف وشرعنة عمليات تهجير وقتل جماعي، وعمّق الشرخ بين مكوّنات المجتمع السوري، و بهذا المعنى، لم تكن الطائفية مجرد نتيجة للنزاع، بل أداة رئيسية أطلقت العنان لصراع دموي بلا نهاية، حوّل التنوع السوري من ثراء حضاري إلى مأساة إنسانية متجددة
نتائج إنسانية مدمرة
في قلب الجغرافيا السورية، عادت محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية إلى واجهة الأحداث، ليس فقط بسبب عنف الاشتباكات المسلحة، بل لأن ما يجري هناك يُسلّط الضوء على سلاح الفتنة الطائفية وقد تحوّل هذا السلاح من كونه مجرد أداة للضغط السياسي إلى عامل هدم اجتماعي وإنساني يُبدد أواصر المجتمعات ويهدد وجودها.
ومنذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، حاولت أطراف محلية ودولية توظيف الانقسامات المذهبية لتعزيز مكاسبها، وفي السويداء، رغم بقاء المحافظة نسبيًا بمنأى عن القتال المباشر لسنوات طويلة، فإن الخلافات الكامنة بين مكوناتها –الدروز وأقلية البدو السنة– ظلت قابلة للاشتعال متى استُثمرت سياسيًا.
تشير تقارير مركز كارنيغي للشرق الأوسط إلى أنّ محافظة السويداء تحولت تدريجيًا من نموذج للتعايش الحذر إلى ساحة صراع، نتيجة محاولات قوى محلية وخارجية تعبئة المشاعر الطائفية لأغراض النفوذ والهيمنة.
كيف تحولت الشرارة إلى حريق؟
بدأت المواجهات الأخيرة على خلفية حادثة خطف تاجر خضار درزي، تبعتها عمليات خطف متبادلة بين مسلحين دروز وآخرين من البدو، لكن، وكما تشير شهادات محلية وتقارير المرصد، فإن دخول القوات الحكومية وانحيازها النسبي لطرف على حساب آخر أسهم في تصعيد القتال.
بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، أسفرت الاشتباكات التي اندلعت في السويداء منذ صباح الأحد وحتى الأربعاء عن مقتل أكثر من 350 شخصًا، ومن بين الضحايا: 79 مقاتلًا درزيًا، 55 مدنيًا، 189 عنصرًا من القوات الحكومية، 18 مسلحًا من البدو السنة، وهذه الأرقام تكشف بوضوح حجم الخسائر البشرية في صراع قصير الأمد نسبيًا لكنه شديد الكثافة والتأثير.
أعلنت دمشق لاحقًا سحب قواتها بعد اتفاق وقف إطلاق نار، لكن بحسب سكان محليين وفقا لما أوردته وكالة فرانس برس، ما زال التوتر يخيّم على الأحياء، في ظل تخوف واسع من تجدّد العنف في أي لحظة.
نتائج إنسانية كارثية
تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير إلى نزوح آلاف المدنيين من السويداء خلال الأيام الماضية، في حين يعاني السكان من انقطاع مياه الشرب والكهرباء ونقص حاد في الأدوية.
ويقدَّر عدد سكان السويداء بنحو 700 ألف نسمة، معظمهم دروز، يعتمدون على الزراعة وبعض الوظائف الحكومية، وقد تسبب العنف الأخير في إغلاق أسواق ومراكز صحية، وتدمير أجزاء من البنية التحتية.
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أعرب عن قلق بالغ إزاء تصاعد العنف، وأدان جميع الانتهاكات بحق المدنيين، داعيًا إلى التهدئة والتحقيق في الانتهاكات بشفافية.
ويمنح توظيف النزاعات الطائفية في سياق الحرب بعض الأطراف مكاسب سريعة، إذ يُسهم في تعبئة الأنصار وتبرير التدخلات العسكرية، لكنه يحمل عيوبًا استراتيجية مدمرة حيث يعمّق الانقسام المجتمعي إلى حد قد يستعصي ترميمه، ويخلق أجيالًا جديدة تحمل مشاعر كراهية موروثة، ويؤدي إلى نزيف اقتصادي واجتماعي طويل الأمد، ويُفقد السلطة أو الأطراف المستفيدة لاحقًا القدرة على ضبط الفوضى التي أسهمت في إطلاقها.
وتؤكد تقارير منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية أن النزاعات الطائفية غالبًا ما تُستخدم لصرف الانتباه عن جذور الأزمات الحقيقية كالفقر والفساد والاستبداد.
دعم خارجي.. وتأجيج داخلي
لا يمكن إغفال دور الأطراف الخارجية في تأجيج الصراع الطائفي، في حالة السويداء، شنّت إسرائيل عدة غارات على مواقع عسكرية سورية بذريعة حماية الدروز، وفي المقابل، نددت إيران بهذه الغارات، مؤكدة دعمها للنظام السوري.
أما الولايات المتحدة، فقد دعت صراحة إلى سحب القوات الحكومية من السويداء، معتبرة أن وجودها يزيد التوتر، ويشير مراقبون إلى أن هذه المواقف ليست خالصة الدوافع الإنسانية، بل تحمل أبعادًا جيوسياسية مرتبطة بالصراع على النفوذ في جنوب سوريا القريب من الجولان المحتل.
ورغم خصوصية السويداء في التكوين الديموغرافي، فإن ما يحدث ليس معزولًا عن سياق أوسع، ففي سوريا واليمن والعراق ولبنان، جرى توظيف الطائفية لتقسيم المجتمع وتحقيق مكاسب سياسية على حساب السلم الأهلي.
ويحذّر خبراء في النزاعات، مثل الباحثة ماريا معلوف، من أن استمرار استخدام الهويات الطائفية كأداة صراع يهدد بتفجير حروب لا تنتهي، إذ تصبح المصالح الضيقة أقوى من المصلحة الوطنية.
الأمل في التهدئة
رغم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته وزارة الداخلية السورية مع شيوخ الطائفة الدرزية، لا يزال الخوف من تجدّد العنف قائمًا، ويدعو مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، الأطراف إلى ضبط النفس وفتح حوار حقيقي لمعالجة أسباب التوتر.
ويؤكد خبراء أن تفكيك خطاب الكراهية وتعزيز ثقافة المواطنة والعدالة الانتقالية هي السبيل الوحيد لتجنّب انفجارات طائفية جديدة.
وتكشف مأساة السويداء مجددًا أن الفتنة الطائفية كسلاح سياسي تُدمّر أكثر مما تُحقق من مكاسب، قد تغيّر موازين القوى في المدى القصير، لكنها في النهاية تُهلك النسيج الاجتماعي، وتترك وراءها جراحًا قد لا تُشفى لعقود.
وفي خضم هذا الدمار، يبقى الضحايا الحقيقيون هم المدنيون الأبرياء الذين يُقتَلون أو يُهجَّرون أو يُتركون يعيشون في رعبٍ يومي، في بلدٍ كان يومًا غنيًا بتنوّعه، فصار ضحيةً لانقساماته.