رواتب محتجَزة وخدمات مُنهارة.. كيف يهدّد النزاع النفطي حقوق سكان كردستان؟
رواتب محتجَزة وخدمات مُنهارة.. كيف يهدّد النزاع النفطي حقوق سكان كردستان؟
في قلب شمال العراق، وفي أرض لطالما اعتُبرت من أغنى المناطق بالنفط، يجد ملايين السكان أنفسهم عالقين في نزاع معقد تتقاطع فيه السياسة بالنفط وحقوق الإنسان الهجمات المتكررة بطائرات مسيّرة مجهولة ضربت 5 حقول نفطية بين 14 و16 يوليو الجاري، لتكشف مرة أخرى هشاشة الأوضاع في إقليم كردستان العراق، وتلقي الضوء على أزمة عميقة.. كيف أصبح النفط الذي يُفترض أن يكون نعمة اقتصادية سلاحًا في صراع طويل الأمد بين بغداد وأربيل، وورقة ضغط تهدد حق الإنسان في التعليم والصحة ومستوى معيشي كريم.
وأضرت الهجمات الأخيرة التي لم تُعلن أي جهة مسؤوليتها عنها بإنتاج الطاقة في الإقليم بشكل غير مسبوق، إذ توقفت حوالي 220 ألف برميل يوميًا، أي نحو 70% من إجمالي إنتاج نفط كردستان، وفقًا لتقرير "ذا نيو أراب"، ورغم عدم وقوع إصابات، فإن التداعيات الاقتصادية والإنسانية تبدو أشد قسوة.
ويشير مراقبون بحسب "هيومن رايتس ووتش" إلى أنّ هذه الضربة تمثل تصعيدًا جديدًا في نزاع سياسي ممتد منذ 2014، حين بدأت بغداد تستخدم تحويلات الميزانية المخصصة للإقليم وسيلة للضغط السياسي على أربيل، في السنوات التالية، حجبت الحكومة الاتحادية مبالغ ضخمة بدعوى أنّ حكومة إقليم كردستان لم تُسلم كامل إنتاجها من النفط لبغداد وفقًا للدستور والاتفاقات السابقة.
هذه الخلافات ليست جديدة، فمنذ اعتماد الدستور العراقي في 2005، ظلت مسألة إدارة النفط وتقاسم عائداته مصدر توتر دائم بين الحكومة الاتحادية والإقليم، الذي يرى أنّ له الحق في إدارة موارده النفطية بصورة مستقلة، في حين ترى بغداد أن النفط ثروة وطنية ينبغي توزيعها بالتساوي، وفي كل مرة يشتد النزاع، يكون المواطن البسيط الحلقة الأضعف.
مَن يدفع الثمن؟
تقول سارة صنبر، الباحثة في "هيومن رايتس ووتش"، إن "التدمير المتعمد للبنية التحتية النفطية له عواقب مباشرة على حياة الناس، إذ يعتمد الإقليم اعتمادًا شبه كلي على عائدات النفط لدفع الرواتب وتمويل الخدمات الأساسية".
وتؤكد الأرقام هذا الواقع المؤلم: منذ 2014 لم تدفع حكومة إقليم كردستان سوى جزء من 44 راتبًا شهريًا مستحقة للعاملين في القطاع العام، في حين لم تدفع 16 راتبًا كاملًا للمعلمين تحديدًا، بحسب منصة "كركوك ناو"، وفي أواخر 2023، نفّذ نحو 60 ألف معلم أطول إضراب في تاريخ الإقليم استمر ستة أشهر، حُرم خلالها 700 ألف طالب من التعليم.
ولم يكن القطاع الصحي أفضل حالًا؛ فبسبب عدم دفع الرواتب، اقتصر عمل المستشفيات الحكومية على الحالات الطارئة فقط، في حين اضطر كثير من الأطباء والممرضين إلى الانتقال للعمل في القطاع الخاص، ما عمّق أزمة الفقراء الذين لا يستطيعون تحمل كلفة العلاج الخاص.
هجمات متكررة تهدد الحقوق
إضافة إلى أثرها المباشر على الإنتاج النفطي، تهدد الهجمات على حقول الغاز خصوصًا حقل "خور مور" إمدادات الكهرباء بشكل خطير. هذا الحقل يُعد المصدر الرئيسي للغاز الذي يُشغل محطات توليد الكهرباء في الإقليم.
وبحسب "هيومن رايتس ووتش"، تعرض "خور مور" منذ 2023 لتسع هجمات مسيّرة، آخرها في فبراير 2025. وفي إبريل 2024، أسفر هجوم عن مقتل أربعة عمال، وأوقف الإنتاج قرابة أسبوع، ما أدى إلى انقطاع واسع للكهرباء.
وقال مدير مركز التحكم لإقليم كردستان في وزارة الكهرباء، أوميد سعيد، إن الإمداد بالكهرباء في الإقليم غير منتظم أصلًا، حيث لا تتجاوز ساعات التغذية 6 ساعات يوميًا في الشتاء و12–14 ساعة في الصيف، قبل الهجمات الأخيرة أصلاً.
وتمس هذه الانقطاعات بشكل مباشر الحق في الكهرباء الذي يُعد جزءًا أساسيًا من الحق في مستوى معيشي لائق بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي صادق عليه العراق.
تأجيل دائم للحلول
بعد الهجمات الأخيرة، أمر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بفتح تحقيق، وتعهد بمحاسبة المسؤولين، كما وقّعت بغداد وأربيل في 17 يوليو اتفاقًا لاستئناف تصدير النفط ودفع الرواتب، لتؤكد وزارة مالية الإقليم لاحقًا استلام الأموال الخاصة برواتب مايو، لكن رواتب يونيو ويوليو لم تُصرف حتى الآن، ما يعكس استمرار الأزمة.
هذا التردد في تقديم حلول جذرية يكشف عن مشكلة عميقة: غياب الشفافية والعدالة في توزيع الثروات الوطنية، إذ لم تُنشر حتى اليوم نتائج أي تحقيق رسمي حول الهجمات السابقة أو الحالية، كما تتهم أربيل ميليشيات مرتبطة بالحكومة الاتحادية بتنفيذ الهجمات، في حين تنفي بغداد علاقتها بأي جماعات مسلحة تستهدف الإقليم.
وبعيدًا عن لغة الأرقام، الأزمة تمس جوهر كرامة الإنسان في كردستان العراق، آلاف العائلات تنتظر كل شهر راتبًا لم يعد مضمونًا، ومعلمون فقدوا الأمل في تعليم جيل كامل، وأطباء يخوضون معركة يومية بين التزامهم المهني وضغوط الحياة.
تقول "هيومن رايتس ووتش" إن استخدام الرواتب وسبل عيش المدنيين ورقة ضغط سياسية يُعد انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان، فالحق في الصحة والتعليم والحياة الكريمة يجب ألا يكون خاضعًا للتجاذبات السياسية.
التاريخ يعيد نفسه
لطالما كان النفط في العراق مصدرًا للصراع منذ اكتشافه في عشرينيات القرن الماضي، بدءًا من النزاعات بين الشركات الأجنبية والحكومات المتعاقبة، مرورًا بالحروب والعقوبات، وصولًا إلى النزاعات بين بغداد والأقاليم، لكن المفارقة أن النفط الذي يُفترض أن يكون موردًا للتنمية، تحول إلى لعنة سياسية واقتصادية.
وفي كردستان، حيث يعيش أكثر من 5 ملايين نسمة، باتت الأزمات المالية والسياسية المزمنة جزءًا من الحياة اليومية، ومع تكرار الهجمات وتوقف الإنتاج، تتراجع ثقة المواطنين في قدرة الدولة، بشقيها الاتحادي والإقليمي، على حماية أبسط حقوقهم.
في النهاية، تُلخص تصريحات سارة صنبر المشهد بوضوح: ينبغي التوقف عن استخدام الرواتب وسبل العيش ورقة مساومة، وهو مطلب يبدو بسيطًا في جوهره، لكنه يتطلب شجاعة سياسية ورؤية إنسانية ترى المواطن أولًا، قبل الحسابات النفطية والسياسية.
وأن ما يحتاجه إقليم كردستان والعراق عمومًا هو اتفاق عادل ودائم يضمن توزيع الثروات بشفافية، حماية البنية التحتية الحيوية، ومحاسبة أي طرف يسعى لتقويض استقرار البلاد من خلال استهداف النفط، فبدون ذلك سيبقى المدنيون يدفعون الثمن، وستبقى المدارس مغلقة والمستشفيات شبه معطلة، في وطن يملك من الثروات ما يكفي ليؤمّن حياة كريمة لكل مواطنيه.