مأساة غزة تغير القواعد.. المجاعة تعيد تشكيل الرأي العام في أمريكا وأوروبا
مأساة غزة تغير القواعد.. المجاعة تعيد تشكيل الرأي العام في أمريكا وأوروبا
في ظل سماء ملبدة بدخان الحرب، وفي بقعة جغرافية لا تتعدى مساحتها بضع مئات من الكيلومترات المربعة، تتكشف واحدة من أشد الأزمات الإنسانية قسوة في التاريخ المعاصر؛ هي المجاعة في غزة، حيث لم تعد الكلمات كافية لوصف المشهد الذي يتراوح بين أطفال يتضورون جوعًا، وأمهات يائسات يتسابقن وراء فتات الخبز، وآباء عاجزين عن إطعام أسرهم.. إنها مأساة غير مبررة، تتجاوز حدود الجغرافيا لتضرب في صميم الوعي الإنساني حول العالم، مسببة انقسامًا غير مسبوق في الرأي العام داخل الولايات المتحدة وأوروبا، ومزيلة بذلك إجماعًا سياسيًا دام عقودًا في دعم إسرائيل.
لم تعد المجاعة في غزة مجرد تحذيرات تطلقها وكالات الإغاثة، بل أصبحت حقيقة مريرة يوثقها العالم يومًا بعد يوم، حيث تفرض الصور ومقاطع الفيديو القادمة من القطاع نفسها على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، لتُحدث تحولًا جذريًا في نظرة الرأي العام الغربي، الذي كان في معظمه مؤيدًا لإسرائيل في بداية الصراع، لقد تحولت المعاناة الإنسانية من مجرد أرقام إلى وجوه حية، أحدثت نقطة تحول في كيفية تغطية الحرب، وأجبرت العديد من الأصوات على إعادة التفكير في مواقفها.
من الدعم المطلق إلى التساؤل الأخلاقي
لقد كانت الولايات المتحدة دائمًا حليفًا استراتيجيًا راسخًا لإسرائيل، وكان الدعم الأمريكي لها ثابتًا عبر الأطياف السياسية، لكن أزمة غزة، وخاصة صور الأطفال الجوعى، بدأت تكسر هذا الإجماع. تقرير لشبكة "سي إن بي سي" أشار إلى تحول متزايد في الرأي العام الأمريكي حول سلوك إسرائيل.
أظهر استطلاع حديث لمؤسسة "غالوب" أن غالبية البالغين الأمريكيين لم يعودوا يؤيدون العمليات العسكرية في قطاع غزة، وهو تراجع كبير مقارنةً بالدعم الذي حظيت به تلك العمليات في بداية الصراع في أكتوبر 2023، هذا التغير لا يقتصر على الديمقراطيين فحسب، بل يمتد ليشمل الجمهوريين أيضًا، وهي ظاهرة غير مسبوقة.
انتقادات غير متوقعة من الجمهوريين؛ فطالما كان الحزب الجمهوري موحدًا في دعمه لإسرائيل، لكن أزمة المجاعة دفعت ببعض الأصوات الجمهورية البارزة إلى التعبير عن انتقادات علنية، فقد وصفت النائبة مارغوري تايلور غرين، الحليفة المقربة من دونالد ترامب، الأزمة الإنسانية في غزة بأنها "إبادة جماعية"، وهو وصف لم يجرؤ عليه الكثيرون في السابق، وقد جاءت تصريحاتها بعد أن ناقض الرئيس دونالد ترامب تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "لا توجد مجاعة في غزة"، مؤيدًا بذلك ضرورة إدخال المزيد من المساعدات.
تصاعد الضغوط من الديمقراطيين
في الجانب الديمقراطي، ازدادت الضغوط بشكل كبير على إدارة الرئيس بايدن. شخصيات بارزة مثل رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي وصفت الوضع بأنه "حالة طوارئ أخلاقية كارثية"، كما أعلن السيناتور المستقل أنغوس كينغ أنه "سيدعو ويصوت لإنهاء أي دعم أمريكي مهما كان حتى يحدث تغيير ملموس في اتجاه السياسة الإسرائيلية"، مضيفًا أن "اختباره الحاسم بسيط، لا مساعدة من أي نوع طالما أن هناك أطفالاً يتضورون جوعاً في غزة بسبب تصرفات الحكومة الإسرائيلية أو تقاعسها".
هذه المواقف، التي كانت غير واردة قبل بضعة أشهر، تعكس مدى تأثير الصور القادمة من غزة في الضمير الأمريكي، وتؤكد أن الأزمة الإنسانية أصبحت أداة ضغط سياسية قوية.
أوروبا: تحول بطيء ولكنه حاسم
لم يكن الرأي العام في أوروبا بمنأى عن هذا التحول، فرغم أن الموقف الأوروبي كان أكثر تباينًا من نظيره الأمريكي، فإن المجاعة في غزة أجبرت الحكومات الأوروبية على إعادة النظر في دعمها غير المشروط، فالتقارير الصادرة عن منظمات مثل "أوكسفام" و"أطباء بلا حدود" وغيرها من المنظمات الأوروبية، كانت حاسمة في توثيق الأزمة، وتوفير الأدلة على نقص الغذاء والدواء.
انتقادات المؤسسات الدولية
الأمم المتحدة -والعديد من وكالاتها مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية- أدت دورًا محوريًا في فضح الأزمة، فقد حذر تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي من أن "غزة تواجه أسوأ مستويات انعدام الأمن الغذائي التي شهدها أي مكان في العالم"، وأن "المجاعة وشيكة"، وهذه التحذيرات، التي تأتي من مصادر موثوقة، تُقوّض الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن المساعدات الإنسانية تصل إلى القطاع بشكل كافٍ.
ورغم أن الحكومات الأوروبية لم تتبن مواقف متشددة كالتي أظهرها بعض المشرعين الأمريكيين، إلا أن الضغوط الشعبية والإعلامية دفعتها إلى التعبير عن قلقها المتزايد. تزايدت الدعوات الأوروبية لوقف إطلاق النار، ولفتح المزيد من المعابر البرية لإيصال المساعدات، إن هذا التغير في الخطاب، حتى لو كان بطيئًا، يُعدّ مؤشرًا على أن المجاعة في غزة لم تعد مجرد "قضية إنسانية" تُدار من وراء الكواليس، بل أصبحت قضية سياسية مركزية تفرض نفسها على الأجندة الأوروبية.
الحصار والجوع من أدوات الضغط
لا يمكن فهم أزمة المجاعة في غزة بمعزل عن السياق التاريخي للحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع منذ عام 2007. هذا الحصار، الذي استمر لأكثر من 17 عامًا، أضعف البنية التحتية الاقتصادية والصحية للقطاع، وأدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، ما جعل السكان أكثر هشاشة في مواجهة أي صدمة خارجية.
منظمات حقوق الإنسان، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، طالما وثقت الآثار المدمرة للحصار، واعتبرته "عقابًا جماعيًا" للشعب الفلسطيني، لافتة أن تقييد إدخال المساعدات، وتدمير الأراضي الزراعية، واستهداف مخابز ومراكز توزيع الغذاء، كلها ممارسات وثقتها التقارير الحقوقية، وتُشير إلى أن الجوع أصبح يُستخدم أداةً للضغط في الصراع.
الحرب في غزة
الصراع الحالي في غزة ليس وليد اللحظة، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من الأحداث التي تعود جذورها إلى ما بعد حرب 1967، وفي عام 2007، فرضت إسرائيل حصارًا بريًا وبحريًا وجويًا على القطاع بعد أن فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية، وهو حصار استمر أكثر من 17 عامًا وأضعف بشكل كبير البنية التحتية والاقتصادية للقطاع، وجعل سكانه يعتمدون بشكل متزايد على المساعدات الإنسانية.
في 7 أكتوبر 2023، شنت فصائل فلسطينية مسلحة بقيادة حماس هجومًا مباغتًا على مستوطنات ومواقع عسكرية إسرائيلية محيطة بالقطاع، في عملية أطلقت عليها اسم "طوفان الأقصى"، أسفر الهجوم عن مقتل مئات الإسرائيليين، معظمهم مدنيون، وأسر عدد كبير من الجنود والمستوطنين. ردًا على ذلك، شنت إسرائيل هجومًا عسكريًا واسع النطاق على قطاع غزة، شمل غارات جوية مكثفة، وعملية برية واسعة النطاق، بهدف "تدمير قدرات حماس العسكرية والحكومية".
كانت التداعيات الإنسانية للحرب كارثية وغير مسبوقة في تاريخ الصراع، فوفقًا لوزارة الصحة في غزة، تجاوز عدد الضحايا منذ أحداث 7 أكتوبر 60 ألف شهيد، وأكثر من 146 ألف مصاب، حتى نهاية يوليو 2025، وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن الغالبية العظمى من الضحايا من المدنيين، وأن نسبة كبيرة منهم من النساء والأطفال، كما أجبرت العمليات العسكرية الإسرائيلية نحو 85% من سكان القطاع، أي ما يقرب من 1.9 مليون شخص، على النزوح من منازلهم، خاصة من شمال غزة إلى الجنوب، ما أدى إلى اكتظاظ هائل في مناطق مثل رفح.
تُعدّ أزمة المجاعة في غزة واحدة من أبرز وأخطر التداعيات الإنسانية وتشير وزارة الصحة في غزة إلى أن عدد الوفيات بسبب الجوع وسوء التغذية قد ارتفع إلى 159 شخصًا، من بينهم 90 طفلًا، حتى نهاية يوليو 2025، كما أن غالبية المواليد في القطاع يعانون نقص الوزن والطول بسبب سوء التغذية.
وأظهر الرأي العام العالمي تحولًا كبيرًا، حيث ازدادت الاحتجاجات والمظاهرات المناهضة للحرب في مختلف عواصم العالم، وتزايدت الدعوات لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية.