صدمات لا تنتهي.. انتحار 16 جندياً إسرائيلياً يكشف الوجه الآخر للحرب على غزة
صدمات لا تنتهي.. انتحار 16 جندياً إسرائيلياً يكشف الوجه الآخر للحرب على غزة
بين ركام الحرب المشتعل في غزة، تتردد أصداء أزمة أخرى أقل صخبًا، لكنها لا تقل خطورة: أزمة صامتة تتجلّى في ارتفاع معدلات انتحار الجنود الإسرائيليين الذين وجدوا أنفسهم في قلب مواجهات قاسية ومشاهد تفوق طاقة البشر على التحمّل. وفق بيانات حديثة نشرتها صحف إسرائيلية، أقدم ما لا يقل عن 16 جنديًا إسرائيليًا على الانتحار منذ بداية هذا العام، في دلالة مؤلمة على الأثمان النفسية الباهظة التي يدفعها الأفراد خلف خطوط القتال.
هذه الأرقام، التي أكّدتها مصادر عسكرية داخلية ونشرتها قناة "كان" وصحيفة "هآرتس"، تُظهر أن الغالبية العظمى من هؤلاء الجنود لم ينتحروا بسبب مشكلات شخصية سابقة، بل بسبب صدمات مباشرة عاشوها في ساحة المعركة تتمثل في فقدان رفاقهم، التعرض لمشاهد الدمار والقتل، وضغط عمليات قتالية طويلة دون استراحة كافية.
الحرب تصنع جروحاً خفية
بحسب تقرير لقناة "كان" الإسرائيلية، كشف مسؤول عسكري كبير أن "معظم المنتحرين من جنود الجيش الإسرائيلي، أقدموا على ذلك بسبب الواقع المعقد الذي خلقته الحرب، وللحرب عواقب وخيمة"، وهو اعتراف رسمي يُسلّط الضوء على جانب -نادرًا ما يُناقش في الخطاب العام الإسرائيلي- وهو أن الجنود لا يخرجون من الحرب كما دخلوها.
وبحسب تحليل نشرته "تايمز أوف إسرائيل"، فإن الأزمة النفسية الراهنة لا تنفصل عن طبيعة العمليات العسكرية الأخيرة في غزة، التي امتدت شهورًا طويلة وفرضت على الجنود حضوراً ميدانياً مكثفاً في بيئة حضرية معقدة، تتداخل فيها الأخطار مع المشاهد الصادمة والقرارات الأخلاقية الثقيلة.
هذه الظروف ولّدت ضغطًا نفسيًا هائلًا: مشاهد الدمار الكامل لأحياء سكنية، موت مدنيين وأطفال، رفاق يُقتَلون في كمائن أو بانفجار عبوات ناسفة، كل ذلك يترك ندوبًا نفسية قد لا تندمل بسهولة.
مؤشرات متصاعدة
وفق معطيات "هآرتس"، شهد العام الحالي حتى مطلع أغسطس انتحار 16–17 جنديًا، مقارنة بمتوسط سنوي يتراوح تاريخيًا بين 10–12 حالة انتحار في الجيش الإسرائيلي، هذه الزيادة اللافتة دقت ناقوس الخطر في أوساط المؤسسة العسكرية، خاصة مع تزايد المخاوف من تفاقم الأزمة إذا استمرت العمليات العسكرية بالوتيرة نفسها.
ردًا على ذلك، أعلن الجيش الإسرائيلي عن توسيع فرق الصحة النفسية بإضافة نحو 200 مختصّ داخل الخدمة و600 في الاحتياط، وهي خطوة يصفها مراقبون بأنها مهمة لكنها قد تكون متأخرة بالنظر إلى عمق الأزمة.
ثمن الصدمة في جبهات أخرى
ما يحدث اليوم يعيد إلى الأذهان أزمات مماثلة في تاريخ الجيش الإسرائيلي، ولا سيما بعد حرب لبنان الثانية (2006) وحرب غزة 2014 (الجرف الصامد)، حينها أيضًا، سُجّلت زيادة في معدلات الانتحار والإصابات النفسية غير المرئية، لكن اللافت أن الحرب الحالية تتزامن مع وضع سياسي واجتماعي إسرائيلي متأزم، ما يزيد الضغط على الجنود.
تقارير مراكز إسرائيلية مختصة مثل "معهد موشيه دايان للدراسات الاستراتيجية" أشارت إلى أن الحرب الراهنة مختلفة لأنها مفتوحة المدى وتدور في منطقة كثيفة السكان، حيث يصعب على الجنود التمييز دائمًا بين المقاتل والمدني، هذه الضبابية الأخلاقية تترك أثرًا نفسيًا ثقيلًا، خاصة في الجنود صغار السن.
أزمة أوسع من مجرد أرقام
منظمات حقوقية محلية ودولية، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"بتسيلم"، تنبّه إلى أن هذه الأزمة النفسية يجب فهمها أيضًا في سياق الحرب ذاتها. حيث يرى خبراء الصحة النفسية أن الجنود الذين ينفذون أو يشهدون عمليات قصف مكثفة لأحياء سكنية، ثم يُطلب منهم العودة إلى حياة عادية، غالبًا ما يواجهون اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، والشعور بالذنب، والاكتئاب.
تؤكد تقارير دولية أن الاعتراف فقط بالأسباب النفسية لا يكفي، فهناك أيضًا مسؤولية المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي في تخفيف العبء، عبر سياسات واضحة لتقليل فترات الخدمة في مناطق القتال، وإتاحة فرص استراحة ودعم منتظم.
صدمة الجنود ليست جديدة
أزمة الصدمات النفسية لدى الجيش الإسرائيلي لها جذور تعود إلى حرب 1973 وحرب لبنان الأولى (1982)، حيث سُجلت أول موجة اعتراف جماعي بظاهرة المحاربين المعطوبين نفسيًا لكن الفارق اليوم أن المجتمع الإسرائيلي بات أكثر انقسامًا حول أهداف الحرب وضرورتها، ما يزيد الشعور بالضياع لدى الجنود أنفسهم.
بحسب تقرير نشرته يديعوت أحرونوت، يشعر بعض الجنود أنهم يُضحّون في حرب لا نهاية لها، في حين لا يحظون بدعم مجتمعي كافٍ بعد عودتهم.
سؤال أخلاقي وإنساني مفتوح
يطرح هذا الواقع سؤالًا مؤلمًا: هل يمكن لأي مؤسسة عسكرية أن تُحصّن جنودها نفسيًا بالكامل من آثار الحرب، خاصة في صراعات طويلة الأمد مشحونة بالبعد الأخلاقي والسياسي؟
خبراء صحة نفسية إسرائيليون يرون أن الخطوة الأهم ليست فقط زيادة عدد الأطباء النفسيين أو جلسات الدعم، بل أيضًا تغيير الخطاب الرسمي ليعترف بأن الجنود ضحايا أيضًا، وأن الحرب تُخلّف وراءها جرحى غير مرئيين.
أزمة تتجاوز الحدود
اللافت أن الأزمة النفسية للجنود الإسرائيليين لا تُناقَش إلا في سياق داخلي، في حين أن ثم تجاهلاً كاملاً تقريبًا لآثار الحرب في سكان غزة أنفسهم، حيث تشير أرقام صادرة عن الأونروا ومنظمات حقوقية فلسطينية إلى أن آلاف الأطفال والنساء في غزة يعانون اضطرابات نفسية حادة جراء القصف المستمر وفقدان أقاربهم ومنازلهم.
هذا التوازي المأساوي يسلّط الضوء على كلفة إنسانية مضاعفة للحروب الحديثة: فهي لا تدمّر الحجر فحسب، بل تهزّ النفوس على الجانبين.
يختتم تقرير "تايمز أوف إسرائيل" بملاحظة دقيقة: "الجنود لا ينهارون لأنهم ضعفاء، بل لأن البشر بطبيعتهم ليسوا مهيئين لتحمّل العنف المستمر".