أزمة المفقودين في سوريا.. من الغموض الإحصائي إلى تعقيدات العدالة الانتقالية

أزمة المفقودين في سوريا.. من الغموض الإحصائي إلى تعقيدات العدالة الانتقالية
مواطن يطالع صور المفقودين في سوريا

أعلنت الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا، الاثنين، أن تقديراتها لعدد المفقودين منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم تتراوح بين 120 ألفاً و300 ألف شخص، وقد يتجاوز الرقم ذلك لاعتبارات صعوبة الحصر ومحدودية الوصول إلى المواقع والوثائق.

وتتقاطع هذه التقديرات الرسمية الوطنية مع سجلات ومنظمات دولية تُشير إلى عشرات الآلاف من الحالات المعلنة لدى هيئات إنسانية وطبية وقانونية، ما يجعل قضية المفقودين واحدة من أعقد ملفات العدالة والذاكرة في سوريا المعاصرة. 

ولا توجد إحصائية موحّدة وقطعية متفق عليها دولياً، فاللجنة الأممية المستقلة والجهات البحثية الدولية أشارت في مراحل سابقة إلى أرقام تُراوح حول المئة ألف وما فوق بالنسبة للحالات المتعلقة بصراع 2011 وما تلاه، في حين أن اللجنة الوطنية الجديدة وسجلات محلية ومبادرات أسرية تشير إلى نطاق أوسع يشمل عقوداً سابقة لسياسات القمع التي سبقت الحرب.

 كما سجّلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن نحو 35 ألف قضية مفقودين جرى فتحها رسمياً لديها منذ اندلاع النزاع، مع تسجيل طلبات جديدة بعد فتح خطوط اتصال وخدمات تتلقاها عائلات المفقودين، ويعبر هذا التباين الإحصائي عن فروق منهجية في التعريف، والنطاق الزمني، وإمكانيات التسجيل والوصول.

الأبعاد التاريخية والسياسية

قضية المفقودين في سوريا مرتبطة وفقاً لمفوضية حقوق الإنسان وهيومن رايتس ووتش بطول فترة حكم عائلة الأسد، بدءاً من سنوات حكم حافظ الأسد وما تَبعها من سياسات قسرية، ثم توسّعت أبعادها مع اندلاع الاحتجاجات عام 2011 والتحول إلى نزاع مسلح متعدد الأطراف.

وباتت مراكز الاعتقال السرية، عمليات الإخفاء القسري، والادعاءات بوجود مقابر جماعية جزءاً من السجلّ التاريخي الذي توثّقته منظمات حقوقية دولية ومحلية على مدار العقد الماضي، ما وضع البلاد أمام مهمة استثنائية في توثيق الضحايا واستعادة حق العائلات في معرفة الحقيقة. 

وطالبت منظمات حقوقية دولية كهيومن رايتس وعمّال إغاثة مدنية وأمنيين بنهج عاجل لحماية مواقع الدفن وبيانات السجناء والوثائق المرتبطة بالاختفاءات، وحذّرت من تلاشي الأدلة مع مرور الوقت.

كما رحبت الشبكات والهيئات الحقوقية والبرلمانيون بإنشاء مؤسسات وطنية ودولية متخصصة لكنهم شددوا على ضرورة ضمان استقلالية التحقيقات، ومشاركة عائلات الضحايا بجانب تفعيل إجراءات لحفظ الأدلة. 

مؤسسات أممية ومسارات قانونية

أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤسّسة أممية مستقلة ومكلفة بتوضيح مصير المفقودين ودعم أسرهم، وتم تعيين قيادة متخصصة للعمل على هذه المهمة،إلى جانب ذلك تواصل جهات دولية معنية بالتوثيق الجنائي وجمع الأدلة مثل الآلية الدولية المستقلة والمحايدة للمساعدة في محاكمة الجرائم السورية (IIIM) ووكالات خبرة طبية جنائية التعاون لتأمين معايير علمية للتعرّف على الضحايا وإدارة مواقع الدفن.

ومع ذلك، ثمة قيود قانونية حيث إن اتفاقية الحماية من الإخفاء القسري متاحة كإطار دولي لكن بعض الأطراف المعنية لم تصدّق على آلياتها أو لم تدمج نصوصها في تشريعات وطنية، ما يعرقل تطبيقا فوريا لمعايير المساءلة الدولية في بعض الحالات بحسب المؤسسة المستقلة للمفقودين.

وتواجه جهود التوثيق والتعرّف على المفقودين تحديات متعددة منها تلوث مواقع الدفن، وتغيّر معالمها، وغياب سجلات رسمية أو فقدانها، وصعوبة الوصول إلى أرشيف الأجهزة الأمنية السابقة أو مناطق السيطرة، وكمية هائلة من الحالات التي تتطلب مقارنات حمض نووي ومطابقات منهجية، كما أن العمل الميداني يتطلب تنسيقاً بين فرق فنية (طب شرعي، علم آثار، قواعد بيانات وراثية)، وحماية إلكترونية لبيانات الأسر، وتمويل مستمر لدعم عمليات الحفر والتحليل والتوثيق، وتؤكد المنظمات المتخصّصة أن إنجاز هذه الأعمال سيستغرق سنوات وربما عقوداً، لكن التعجيل بحفظ مواقع الأدلة وحماية سجلات التحقيق يُعد شرطاً أساسياً لنجاح أي مسار عدلي أو إنساني، بحسب هيومن رايتس ووتش.

تداعيات حقوقية وإنسانية 

تقول منظمة العفو الدولية إن المفقودين يخلّفون أجيالاً من المعاناة وألم عدم اليقين، وأعباء اقتصادية ونفسية، وإعاقة الوصول إلى حقوق مدنية مثل الإرث والوصاية، كما أن غياب الحقيقة يؤثر في مسارات المصالحة ويقوّض الثقة المجتمعية في أي عملية انتقالية. من ثمّ تُعدّ مسألة المفقودين ركيزة لكل برامج العدالة الانتقالية: الحق في الحقيقة، والحق في العدالة، والحق في التعويض وإجراءات الطمأنة لضمان عدم تكرار الانتهاكات. 

وتدعو توصيات المنظمات والخبراء إلى خطوات متوازية تشمل حماية مواقع الدفن والوثائق فوراً، ودعم قدرات الطب الشرعي وبنوك الحمض النووي، وتشغيل قاعدة بيانات وطنية متكاملة مع تعاون دولي فني وقانوني، وإشراك العائلات في كل مراحل البحث، وضمان استقلالية مؤسسات التحقيق، كما تُعدّ الشفافية والمشاركة المجتمعية شرطين أساسيين كي تتحول إجراءات التوثيق إلى أرضية متينة للمساءلة والعدالة.

قضية المفقودين في سوريا ليست مجرد رقم، بل هي جرح اجتماعي وإنساني وقانوني يتطلب إجراءات تقنية ومستقبلية مركّزة، وتوفير مناخ الحماية للآثار والأدلة، والالتزام الدولي بتقديم خبرات وموارد فعّالة، فضلاً عن سياسات وطنية تضمن الاستقلالية والمشاركة، وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر تمثّل تلك العناصر الشروط الأدنى لتحويل معاناة العائلات إلى مسار يحترم حقوق الضحايا ويرسّخ فرص المصالحة والعدالة الانتقالية على أساس الحق في الحقيقة.  



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية