بطاقة رقمية لكل مواطن.. بريطانيا تصعِّد مواجهة الهجرة غير النظامية وتثير جدل الخصوصية

بطاقة رقمية لكل مواطن.. بريطانيا تصعِّد مواجهة الهجرة غير النظامية وتثير جدل الخصوصية
مشروع الهوية الرقمية في بريطانيا

تبحث الحكومة البريطانية إطلاق نظام هوية رقمية شامل، قد يصبح إلزامياً لجميع الأشخاص الذين يحق لهم العيش أو العمل في البلاد، في إطار خطة يرى داعموها أنها ستحدّ من توظيف المهاجرين غير النظاميين وتقليص السوق السوداء، وقد استعاد المقترح اهتمام الرأي العام بعد أن أعادت مجموعة مفكرين مرتبطة بحزب العمال طرح فكرة "BritCard" المقترحة بوصفها أداة تحقق من الحق في العمل والإيجار والوصول إلى الخدمات الحكومية، مع تقديرات ميزانية تمهيدية للمشروع وفي المقابل أثارت مخاوف حقوقية تتعلق بانتهاك الحق في الخصوصية

ليست هذه الفكرة جديدة في المشهد السياسي البريطاني، فقد سبق أن أُقرت قوانين للهوية في العقد الأول من الألفية، ثم أُلغي المشروع القديم بعد انتقادات تتعلق بتكلفته وتأثيره على الحريات المدنية، فقد ألغيت أحكام قانون الهوية الوطنية في أعقاب تغيّر الأولويات السياسية مع حلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهذا التاريخ يشرح جزءاً من الحذر الشعبي والسياسي الذي يحيط اليوم بأي مشروع هوية شامل. 

لماذا تعيد الحكومة فتح الملف؟ 

ثمة دوافع أمنية وسياسية واقتصادية دفعت الحكومة البريطانية إلى إعادة التفكير بنظام هوية رقمي موحّد منها الهجرة غير النظامية عبر قنوات متنوعة، بما فيها رحلات القوارب عبر القنال الإنجليزي، حيث شهدت أرقاماً مرتفعة في السنوات الأخيرة، ما جعل تقنين الوصول إلى سوق العمل أولوية لدى صانعي القرار، كما أن ازدياد اكتشاف حالات العمل القسري والاستغلال دفع المطالبين بسياسات أشد صرامة لربط الوصول إلى الوظائف بخبرة تحقق فورية للهوية والحق في العمل

مقترحات مثل "BritCard" تتبنى إصدار اعتماد رقمي محمّل على هاتف ذكي أو بطاقة إلكترونية يمكن لأصحاب العمل والجهات المؤهلة التحقق منه عبر تطبيق مجاني؛ ويُقترح أن يكون النظام حكومياً موحداً ويشمل آليات للتحقق من الحق في العمل والإيجار والحصول على خدمات عامة. تقارير دراسة جدوى رسمية وتقييمات سوقية طلبتها جهات حكومية تُظهر أن إطلاق بنية تحتية للهوية الرقمية يتطلب استثمارات أولية وتكاليف تشغيلية سنوية، لكن المخطط يَعِد بتوفير كفاءة في التعاملات الحكومية والحد من أعمال التحايل. 

نماذج دولية تُستخدم كحجة ومرجع

يستشهد مؤيدو الفكرة في بريطانيا بنماذج دول مثل إستونيا التي طوّرت هوية رقمية شاملة تُستخدم في الخدمات الحكومية والتوقيع الإلكتروني، ويُعرض ذلك كدليل على أن التقنيات قد ترفع كفاءة الإدارة العامة وتُسهِم في تقليص الاحتيال، لكن الخبرة الإستونية أيضاً تعرضت لتحليلات نقدية حول الأمن والخصوصية، وتظل قابلة للنقل إلى سياق مختلف كالسوق البريطانية بمتغيراته الاجتماعية والتاريخية.

تداعيات حقوقية ومخاطر ملموسة

تحذر منظمات حقوقية مدنية من مخاطر نظام هوية رقمي موحّد إذا فُرض إجبارياً بدون ضمانات قوية. مجموعات مثلBig Brother Watchترى أن نظاماً مركزياً قد يشكّل هدفاً مغرياً للاختراقات وسيشكل تهديداً للخصوصية، كما حذرت مؤسسات حقوقية دولية من أن التحول الرقمي السريع دون بنية قانونية وحماية فعّالة قد يؤدي إلى استبعاد فئات معرضة للهشاشة، بما في ذلك الأشخاص ذوي الإعاقة والأسر ذات الدخل المنخفض واللاجئون ممن قد لا يملكون هواتف ذكية أو وثائق منتظمة، وتدعو المنظمات إلى اختبار لمخاطر التمييز الرقمي وضمان استثناءات وحلول بديلة لمن لا يستطيعون الوصول للتكنولوجيا. 

بين الحماية واستهداف الضعفاء

من منظور إنساني، يذكّر فنّيو الحماية والوكالات الدولية بأن الهوية هي مفتاح للحصول على الحقوق والخدمات، وأن توثيقاً معتبراً يمكن أن يدعم الإدماج، لكن نفس التكنولوجيا إذا صممت مع معايير قسرية أو ربطت مباشرة بإجراءات إنفاذية حازمة قد تحوّلها إلى أداة طرد وحرمان، تدفع أشخاصاً للبحث عن طرق سرية أكثر تعرضاً للخطر أو تُبقي ضحايا الاستغلال خارج الحماية، مفوضية اللاجئين والأجهزة الدولية تعمل بدورها على تشجيع تصميم أنظمة هوية تُحترم فيها خصوصية اللاجئين وتُصان حقوقهم. 

حجم المشكلة التي يسعى المشروع لاحتوائها

قضايا العمل القسري وتهريب البشر تسجل في بريطانيا ارتفاعاً في الإحالات إلى آليات الحماية، ففي 2024 بلغ عدد الإحالات المحتملة للوقوع في أشكال العبودية الحديثة رقماً مرتفعاً سجلته آليات الإحالة الوطنية، ما يبرر بحسب الحكومة الحاجة إلى أدوات تحقق أفضل لمنع الاستغلال عبر أسواق العمل غير المنظمة، في المقابل تُشير البيانات إلى أن جزءاً كبيراً من الضحايا هم مواطنون بريطانيون أو من ذوي أوضاع قانونية، ما يضع تساؤلات حول تأثّر فئات واسعة من السكان بإجراءات تحقق واسعة مفعولها.

التحديات التقنية والتشغيلية والقانونية

يوجه النقد أيضاً إلى قضايا الأمن السيبراني، التكامل بين قواعد البيانات، والحاجة لضمان الشفافية في تبادل البيانات بين جهات الدولة والقطاع الخاص، علاوة على ذلك، ثمة متطلبات قانونية دولية وأوروبية مرتبطة بحماية البيانات وحقوق الخصوصية تستوجب تقييماً دقيقاً قبل فرض أي التزام شامل، وقد أصدرت منظمات دولية إرشادات واضحة تقول إن أنظمة الهوية الوطنية يجب أن تُصمم مع الخصوصية حسب التصميم ومراجعات لتأثيرات حقوق الإنسان قبل وأثناء التنفيذ.

الهوية الرقمية قد تكون أداة فعالة إذا شُيّدت ضمن ضوابط تحمي الخصوصية، وترافقها طرق بديلة لمن لا يملكون توافر التكنولوجيا، وبرامج لدعم الفئات الهشة، وإطار قضائي شفاف لحقوق من يُطلبون التحقق منهم، وحين تصبح هذه الهوية جزءاً من سياسة إنفاذ الحدود، يصبح من الضروري أن تُرافقها سياسات حماية عمالية، وزيادة التفتيش على أماكن العمل، وبرامج لمنع الاتجار والاستغلال، فضلاً عن آليات طوارئ لمن لا يستطيع إثبات وضعه القانوني فوراً دون تعريضه للخطر.

 توصيات الخبراء تشير إلى أن المقاربة الأمنية وحدها لن تخفّض الظاهرة إذا لم تُعالج الأسباب الجذرية: مسارات هجرة قانونية، فرص عمل مشروعة، وتنمية في بلدان المنشأ. 

يبقى السؤال المفصلي سياسياً وقانونياً وإنسانياً: هل ستنجح هوية رقمية موحّدة في تحقيق توازن بين الحاجة إلى ضبط أسواق العمل وحماية المجتمع من الاستغلال، وبين ضمان حريات وخصوصية مواطنيها وحقوق المقيمين واللجوء؟ نجاح أو فشل هذا المشروع لن يُقاس فقط بكفاءة التكنولوجيا، بل بمدى التزام الحكومة بضوابط حقوق الإنسان، وبقدرتها على توفير مسارات بديلة شرعية ومنصفة لمن يحتاجون إلى الحماية والخدمات، ومن ثمّ بإشراك المجتمع المدني والرقابة القضائية المستقلة طوال عمليّة التصميم والتنفيذ بحسب "bigbrotherwatch".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية