توغلات إسرائيلية شبه يومية وحواجز مؤقتة تعمّق معاناة المدنيين في الجنوب السوري
توغلات إسرائيلية شبه يومية وحواجز مؤقتة تعمّق معاناة المدنيين في الجنوب السوري
منذ مطلع سبتمبر الجاري، يعيش الجنوب السوري، وتحديداً محافظتا القنيطرة ودرعا، حالة من التوتر المتصاعد نتيجة سلسلة من التوغلات الإسرائيلية شبه اليومية داخل الأراضي السورية، وبين الثاني والحادي عشر من الشهر، وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان 11 عملية توغل بري تراوحت بين نصب حواجز مؤقتة، ومداهمات للمنازل، وتدقيق على المركبات، واعتقالات غامضة، في ظل تحليق مستمر للطائرات المسيّرة والمروحيات الإسرائيلية في الأجواء الجنوبية.
هذه التحركات في الجنوب السوري لم تبقَ مجرد أحداث عسكرية محدودة النطاق، بل تحولت إلى مصدر رعب للسكان المحليين الذين باتوا يعيشون تحت ضغط يومي من الخوف والقلق وانعدام الأمان، وسط غياب أي ضمانات لحمايتهم أو مساءلة قانونية لجهة تنفذ عمليات على أرضهم دون رادع.
مشهد ميداني متكرر
التفاصيل الميدانية التي وثقتها التقارير الحقوقية تعكس مشهداً متكرراً يتمثل في دخول آليات عسكرية إسرائيلية إلى قرى حدودية مثل جباتا الخشب، العشة، الأصبح، عابدين والصمدانية، يعقبه انتشار عسكري مفاجئ وحواجز للتفتيش، وفي بعض الحالات نفذت القوات الإسرائيلية اعتقالات جماعية، كما حدث في الثالث من سبتمبر حين داهمت منزلاً في جباتا الخشب واعتقلت سبعة شبان، أفرج عن خمسة منهم لاحقاً بعد تحقيقات غامضة، فيما بقي اثنان قيد الاحتجاز.
وفي حالات أخرى، اقتصرت العمليات على تفتيش منازل أو التدقيق على السيارات، لكنها تركت خلفها حالة ذعر عامة، خصوصاً في ظل تحليق الطيران المسيّر فوق القرى، وفي الحادي عشر من سبتمبر أسفرت مداهمات في قرية عابدين عن اعتقال مدنيين اثنين، واقتيادهما إلى جهة غير معلومة.
أبعاد إنسانية ضاغطة
تداعيات هذه التوغلات الإسرائيلية لا تتوقف عند الأبعاد الأمنية والعسكرية، بل تتجاوزها إلى المستوى الإنساني المباشر، حيث بات الأهالي في القرى الحدودية يعيشون في خوف دائم، يحسبون خطواتهم اليومية، ويخشون حتى من التنقل على الطرقات أو إرسال أبنائهم إلى المدارس، والنساء والأطفال على وجه الخصوص تأثروا نفسياً جراء المداهمات الليلية المفاجئة، والاعتقالات التي تتم دون تفسير أو معلومات عن مصير المحتجزين.
يقول أحد الناشطين المحليين، إن "القلق في الجنوب لم يعد مرتبطاً فقط بذكريات الحرب السورية أو الخوف من الاعتقال الداخلي، بل أصبح مرتبطاً أيضاً بتوغلات إسرائيلية متكررة تقلب حياة الناس رأساً على عقب".
الجنوب السوري لطالما كان ساحة توتر إقليمي. فمنذ حرب 1967 واحتلال إسرائيل لهضبة الجولان، تحولت محافظة القنيطرة إلى منطقة تماس حساسة بين الجيش السوري والقوات الإسرائيلية، ورغم اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974 برعاية الأمم المتحدة، فإن التوتر لم يختفِ.
ومع اندلاع الحرب السورية عام 2011، ازدادت هشاشة المنطقة، حيث ظهرت جماعات مسلحة مختلفة في ريف درعا والقنيطرة، بعضها اتُّهم بارتباطه بإيران أو حزب الله، ما منح إسرائيل ذريعة لتكثيف عملياتها العسكرية، وتشير التقارير العسكرية الإسرائيلية إلى أنها تسعى إلى "منع التموضع الإيراني" على مقربة من حدودها، بينما يرى محللون حقوقيون أن هذه التوغلات تمثل خرقاً صريحاً للسيادة السورية وانتهاكاً للقانون الدولي.
القانون الدولي وردود الفعل الأممية
وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لميثاقها، يعد دخول قوات أجنبية إلى أراضي دولة ذات سيادة دون موافقتها انتهاكاً لسيادتها ووحدة أراضيها. كما نصت المادة الثانية من الميثاق على حظر استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية.
منظمات حقوقية دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية حذرت مراراً من استخدام المدنيين كأداة ضغط في النزاعات المسلحة، وأكدت أن المداهمات والاعتقالات الغامضة دون تهم واضحة ترقى إلى مستوى الاحتجاز التعسفي، وهو أمر محظور بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
أما الأمم المتحدة، فرغم تحفظها في التعليق على تفاصيل كل حادثة، فقد كررت في بيانات سابقة مطالبتها جميع الأطراف بالامتناع عن أي أعمال تعرض حياة المدنيين للخطر، مؤكدة ضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن المتعلقة بسيادة سوريا ووحدة أراضيها.
تقارير منظمات محلية: أصوات مكتومة
المنظمات الحقوقية السورية المحلية تواجه صعوبة بالغة في توثيق الانتهاكات في الجنوب بسبب الرقابة الأمنية وخطر الاستهداف، ومع ذلك، وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان والشبكة السورية لحقوق الإنسان عدة حالات لاعتقالات نفذتها القوات الإسرائيلية في القنيطرة ودرعا، مشيرين إلى أن مصير بعض المعتقلين ظل مجهولاً لأشهر.
كما أصدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان بياناً حذرت فيه من أن هذه التوغلات والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة تضع المدنيين بين سندان الاعتقالات والمداهمات ومطرقة التهديد العسكري المستمر، داعية المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤوليته في حماية السكان المحليين.
التداعيات الإنسانية والاجتماعية
وفقاً لإحصاءات أممية حديثة، يعيش في محافظتي القنيطرة ودرعا نحو مليون ومئتي ألف نسمة، بينهم ما يقرب من 40 في المئة من الأطفال، هؤلاء السكان، الذين أنهكتهم سنوات الحرب والتهجير، يواجهون الآن معاناة الخوف من الاعتقال، والانقطاع عن مصادر الرزق بسبب الحواجز المؤقتة، وتعطيل الحياة اليومية بفعل التفتيش والاقتحامات.
الوضع يفاقمه الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه سوريا، فالمزارعون في الجنوب باتوا يخشون الوصول إلى أراضيهم القريبة من خطوط التماس، خشية التعرض للتوقيف أو التحقيق، ويؤكد ناشطون محليون أن بعض القرى فقدت ثلث إنتاجها الزراعي هذا الموسم نتيجة هذا الخوف.
مواقف إقليمية ودولية
في الوقت الذي تلتزم فيه أطراف إقليمية كبرى الصمت أو الحذر حيال هذه التطورات، تعكس وسائل الإعلام الإسرائيلية رواية تركز على "منع تهديدات أمنية محتملة"، لكن منظمات أممية ترى أن هذه العمليات، إذا استمرت بهذا الإيقاع، قد تدفع المنطقة إلى دوامة جديدة من التصعيد، خاصة مع تصاعد التوتر على جبهات أخرى في الشرق الأوسط.
الجنوب السوري يقف اليوم أمام معادلة معقدة: سكان محاصرون بالخوف من المداهمات والاعتقالات، وبنية اجتماعية هشة تعاني من الفقر والبطالة، وحدود ملتهبة تتحول إلى ساحة توغلات متكررة، وبينما يستمر الحديث عن حسابات عسكرية وأمنية إقليمية، يبقى المدنيون هم الضحية الأولى، محرومين من أبسط حقوقهم في الأمان والعيش الكريم.
وبحسب المنظمات الحقوقية فإن استمرار هذه التوغلات دون مساءلة أو تحرك دولي جاد، يكرس واقعاً خطيراً، حيث تُطبع الانتهاكات وتُهمّش معاناة البشر. وفي غياب حل سياسي شامل يضمن سيادة سوريا ويحمي سكانها، سيبقى الجنوب السوري رهينة للتوترات الإقليمية، ومرآة لانعكاسات صراع طويل لم يترك لأهله سوى الخوف والانتظار.