الذخائر العنقودية.. سلاح محظور يواصل حصد الأرواح ويكشف العجز الدولي
الذخائر العنقودية.. سلاح محظور يواصل حصد الأرواح ويكشف العجز الدولي
في عالم يحاول تجاوز إرث الحروب المدمرة، ما زالت الذخائر العنقودية تذكّر البشرية بفظاعة أدوات القتال التي لا تميّز بين جندي ومدني، وهذه الأسلحة المحظورة بموجب اتفاقية دولية صادقت عليها أكثر من 112 دولة، تواصل حصد الأرواح وتشريد المجتمعات، خصوصاً في مناطق النزاع المفتوحة مثل أوكرانيا وسوريا وبورما، ورغم الجهود الحقوقية والدبلوماسية، فإن استخدامها يزداد اتساعاً، ما يثير تساؤلات حول جدوى المنظومة القانونية الدولية وقدرتها على حماية المدنيين.
ضحايا متزايدون في أوكرانيا
منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022، سجّلت المنظمات الحقوقية أكثر من 1200 ضحية مدنية بين قتيل وجريح جراء استخدام الذخائر العنقودية، وأشار مرصد الذخائر العنقودية في تقريره السنوي إلى أن معظم هذه الإصابات وقعت خلال العام الأول للحرب، حيث اعتمد الجيش الروسي استخداماً مكثفاً لهذه الذخائر منذ اليوم الأول، وفق وكالة الأنباء الألمانية، في حين أظهرت تقارير أخرى لجوء الجيش الأوكراني إليها في بعض المواقع، وفي عام 2024 وحده، سجّلت أوكرانيا 193 ضحية من أصل 314 حول العالم، ما يجعلها الدولة الأكثر تضرراً من هذه الأسلحة.
قمة جبل الجليد
خبراء المرصد يؤكدون أن الأرقام المعلنة ليست سوى جزء ضئيل من الواقع، إذ يصعب في مناطق النزاع توثيق كل الخسائر، فالكثير من القنابل الصغيرة لا تنفجر فوراً، بل تتحول إلى ألغام كامنة قد تحصد الأرواح بعد شهور أو سنوات، وهذه الخاصية تجعل الذخائر العنقودية تهديداً طويل الأمد، يعرقل عودة النازحين ويجعل إعادة الإعمار أكثر تكلفة وتعقيداً.
الذخائر العنقودية ظهرت لأول مرة على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية، ثم استخدمت بكثافة في فيتنام وكمبوديا ولاوس خلال الستينات والسبعينات، تاركة وراءها ملايين القنابل غير المنفجرة التي لا تزال تحصد الأرواح حتى اليوم، وفي حرب لبنان 2006، اتُّهمت إسرائيل بإسقاط ملايين القنابل الصغيرة على جنوب البلاد، ما دفع المجتمع الدولي إلى تعزيز الجهود نحو حظر شامل لهذه الأسلحة، هذه الخلفيات التاريخية تبيّن أن الكارثة ليست جديدة، بل تتكرر مع كل نزاع مسلح دون حلول جذرية.
في عام 2008، تم التوصل إلى "اتفاقية الذخائر العنقودية" التي دخلت حيز التنفيذ عام 2010، لتحظر استخدام هذه الأسلحة وإنتاجها وتخزينها ونقلها، وحتى اليوم، صادقت على الاتفاقية 112 دولة، منها معظم دول أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، لكن الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، إضافة إلى إسرائيل وأوكرانيا، لم تنضم إليها، وهذا الرفض يعكس الحسابات الاستراتيجية والعسكرية التي تتقدم على الاعتبارات الإنسانية، ويترك ملايين المدنيين عرضة للخطر.
ردود الفعل الحقوقية والدولية
المنظمات الحقوقية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية حذرت مراراً من أن استخدام الذخائر العنقودية يشكّل جريمة حرب عندما يستهدف أو يصيب المدنيين بشكل عشوائي، والأمم المتحدة بدورها دعت إلى وقف فوري لاستخدام هذه الأسلحة، معتبرة أنها تمثل تهديداً مباشراً للسلم والأمن الدوليين، كما وصفت المفوضية السامية لحقوق الإنسان الضحايا بأنهم "ثمن قاسٍ لغياب الإرادة السياسية" لإنهاء هذه الممارسات. وفي المقابل، تواجه دول مثل الولايات المتحدة انتقادات حادة بعدما قررت عام 2023 تزويد أوكرانيا بهذه الذخائر رغم حظرها الواسع.
تداعيات إنسانية واقتصادية
ما يضاعف مأساة الذخائر العنقودية أنها تستمر في قتل وتشويه المدنيين بعد انتهاء الحروب بسنوات، فالأطفال هم الأكثر عرضة للخطر، إذ ينجذبون إلى القنابل الصغيرة التي تشبه الألعاب.
واقتصادياً، تُعطّل هذه الذخائر الزراعة وتمنع استغلال الأراضي، ما يفاقم الفقر والجوع في المجتمعات المتأثرة، وقد قدر البنك الدولي أن عمليات تطهير الذخائر غير المنفجرة في لاوس وحدها استنزفت أكثر من مليار دولار خلال العقود الماضية، في حين تستمر الخسائر البشرية إلى اليوم.
انتكاسات مقلقة
رغم الزخم الذي حققته اتفاقية 2008، فإن الأعوام الأخيرة شهدت تراجعاً مقلقاً في الالتزام الدولي، وكانت ليتوانيا أول دولة تعلن انسحابها من الاتفاقية في مارس 2025، مبررة ذلك بمخاوف أمنية نتيجة الحرب الروسية في أوكرانيا، وحذرت منظمات المجتمع المدني من أن هذه الخطوة قد تشكل سابقة خطرة وتشجع دولاً أخرى على أن تحذو حذوها، ما يضعف جهود الحظر الشامل.
إحصاءات حديثة
تقرير مرصد الذخائر العنقودية لعام 2024 أظهر أن 97% من ضحايا هذه الأسلحة حول العالم مدنيون، نصفهم تقريباً من الأطفال، كما سجل التقرير وقوع هجمات في بورما وسوريا إلى جانب أوكرانيا، مع مزاعم باستخدامها في مناطق أخرى مثل تايلاند وإيران. ورغم انخفاض استخدام الذخائر العنقودية في بعض النزاعات خلال العقد الماضي، فإن الحرب في أوكرانيا عادت تصدّرها بوصفها أخطر سلاح يهدد حياة المدنيين.
الذخائر العنقودية مثال صارخ على الفجوة بين المبادئ الإنسانية والواقع العسكري، ورغم الإجماع الدولي على خطورتها وحظرها في أكثر من مئة دولة، فإن استمرار استخدامها في مناطق النزاع يؤكد هشاشة الالتزامات القانونية أمام منطق الحرب، ويتوقف مستقبل هذه القضية على إرادة سياسية دولية أكثر صرامة، وآليات محاسبة تضمن ردع مستخدميها، وحتى يتحقق ذلك، ستظل هذه الذخائر تحصد الأرواح وتعوق السلم والتنمية، في حين يبقى المدنيون الضحايا الأوائل لها.