كارثة مناخية تهدد العالم.. كيف فقدت الأمازون مساحة تعادل إسبانيا؟
كارثة مناخية تهدد العالم.. كيف فقدت الأمازون مساحة تعادل إسبانيا؟
تشهد غابات الأمازون المطيرة، رئة الكوكب التي طالما مثلت مخزوناً طبيعياً هائلاً للتنوع البيولوجي وتنظيم المناخ، خسارة غير مسبوقة، فقد أظهرت بيانات شبكة "مابيوماس" أن البرازيل فقدت نحو 49.1 مليون هكتار من هذه الغابات خلال أربعة عقود، وهي مساحة تعادل تقريباً مساحة إسبانيا، وهذا التراجع يضع الأمازون على عتبة "نقطة اللاعودة"، أي اللحظة التي لن تتمكن بعدها المنظومة البيئية من التعافي الذاتي.
تاريخياً، ارتبط فقدان الغطاء الحرجي في الأمازون بما يُعرف بـ"قوس إزالة الغابات"، وهي المنطقة التي شهدت منذ سبعينيات القرن الماضي توسعاً متسارعاً في الزراعة والرعي، وتشير بيانات "مابيوماس" إلى أن مساحة المراعي تضاعفت خمس مرات بين عامي 1985 و2024، لتصل إلى أكثر من 56 مليون هكتار، ومع أن هذه الأنشطة أسهمت في تعزيز الاقتصاد الزراعي البرازيلي، فإنها جاءت على حساب أكبر نظام بيئي استوائي على الكوكب.
تهديد دورة المياه والأمطار
الدراسات العلمية الحديثة تكشف أن الأمر يتجاوز مجرد فقدان الأشجار، فالغابة الاستوائية تمثل مصنعاً للمطر؛ إذ تطلق الرطوبة إلى الغلاف الجوي لتغذي دورة الأمطار، وأظهر تحليل مشترك لجامعتي نانجينغ الصينية وليدز البريطانية أن فقدان 3.2% من الغطاء الحرجي في ولايتي روندونيا وماتو غروسو أدى إلى انخفاض بنسبة 5.4% في هطول الأمطار خلال موسم الجفاف، وهذا التراجع يؤثر مباشرة في الزراعة، والأنهار، والحياة البرية، ما يعمّق الأزمة البيئية.
موجات جفاف وحرائق متسارعة
بين عامي 2023 و2024، واجهت البرازيل واحدة من أسوأ موجات الجفاف منذ عقود، أثرت في نحو 59% من مساحة البلاد. الجفاف ترافق مع حرائق غابات هائلة أتت على أكثر من 3.25 مليون هكتار من الغابات البكر خلال عام 2024 وحده، وفق معهد الموارد العالمي، وأوضحت الباحثة آني ألينكار من معهد أبحاث البيئة في الأمازون أن "حرائق الغابات التي كانت نادرة في النظم البيئية الاستوائية أصبحت واقعاً سنوياً"، مضيفة أن الأشجار المحترقة تزيد الغابة جفافاً وقابلية للاشتعال، ما يجعل الظاهرة حلقة مفرغة بحسب فرانس برس.
الأزمة لا تهدد الطبيعة وحدها، بل تضرب حياة ملايين السكان، فالمجتمعات الأصلية والتقليدية في الأمازون تجد نفسها في مواجهة فقدان الموارد المائية والحرائق والدخان، وتوثق تقارير محلية شكاوى سكان القرى من صعوبة الوصول إلى الأنهار التي يعتمدون عليها في التنقل والصيد والزراعة. في بعض المناطق، أدى الجفاف إلى عزل المجتمعات عن المدارس والخدمات الصحية والأسواق، ما عمّق الفقر والهشاشة، وتؤكد الباحثة ريجينا رودريغيز من جامعة سانتا كاتارينا أن "أي تغيير في توقيت موسم الأمطار يمكن أن تكون له آثار كارثية في بقاء هذه المجتمعات".
الضرر المزدوج
البروفيسور دومينيك سبراكلين من جامعة ليدز يصف إزالة الغابات بأنها "ضرر مزدوج" على المناخ. فهي تقلل كمية بخار الماء التي تُضخ في الغلاف الجوي، وتضعف في الوقت نفسه قدرة الغلاف الجوي على امتصاص الرطوبة من مناطق أخرى. النتيجة: أجواء أكثر حرارة وجفافاً، وضعف في الحمل الحراري الجوي الذي يُعد عنصراً أساسياً في نقل الحرارة والرطوبة عالمياً.
على الرغم من أن إزالة الغابات تُبرَّر غالباً بالحاجة إلى التوسع الزراعي وتربية الماشية، فإن الأبحاث تشير إلى أن هذه الممارسات تقوّض الإنتاجية نفسها. انخفاض الأمطار وتجفيف التربة يرهقان المحاصيل الزراعية، ما قد يكلف البرازيل مئات المليارات من الدولارات بحلول عام 2050 وفق تقديرات بحثية، هذه المفارقة توضح أن استمرار الوضع الحالي لا يشكل تهديداً بيئياً فحسب، بل يشكل تهديداً اقتصادياً كذلك.
مسؤولية دولية وضغط حقوقي
غابات الأمازون ليست قضية محلية للبرازيل وحدها، بل هي قضية عالمية. الأمم المتحدة حذرت مراراً من أن تجاوز "نقطة اللاعودة" في الأمازون سيقوض الجهود الدولية للحد من الاحترار المناخي، فالقانون الدولي، ولا سيما اتفاقية باريس للمناخ، يضع على عاتق الدول مسؤولية حماية النظم البيئية ذات الأهمية العالمية، ومنظمات، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"غرينبيس"، شددت على أن سياسات التوسع الزراعي غير المنضبط تتعارض مع هذه الالتزامات، وطالبت البرازيل بتبني إجراءات عاجلة للحد من إزالة الغابات.
البرازيل تستعد لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب 30) في نوفمبر المقبل بمدينة بيليم في قلب الأمازون، هذا الحدث يضع الحكومة أمام اختبار مصداقية عالمي؛ هل تستطيع أكبر دولة في أمريكا اللاتينية تقديم نموذج حقيقي للتوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة؟ الضغوط الداخلية والدولية تتصاعد لدفع السلطات نحو سياسات أكثر صرامة، تشمل تعزيز الرقابة على قطع الأشجار غير القانوني ودعم المزارع المستدامة.
وجه إنساني للأزمة
وراء الأرقام المقلقة، تقف قصص إنسانية لمجتمعات تقاوم البقاء. النساء في القرى النائية يقطعن مسافات أطول للحصول على مياه شحيحة، الأطفال يتغيبون عن المدارس بسبب عزلة قراهم في مواسم الجفاف، ويشكو المزارعون الصغار من تراجع المحاصيل وتفاقم الديون. هذه الصور تجسد أن أزمة الأمازون ليست مجرد مسألة بيئية، بل قضية حقوق إنسان ومعيشة وكرامة.
الأمازون تقترب من نقطة تحول تاريخية. ما كان يُعد في الماضي خطراً بعيداً بات حقيقة ملموسة؛ غابة كانت تمثل "رئة العالم" تفقد قدرتها تدريجياً على التنفس، والتحذيرات العلمية واضحة، والآثار الاجتماعية والاقتصادية ملموسة، والمسؤولية تقع على عاتق الحكومات، والمجتمع الدولي، والقطاع الخاص على حد سواء.
إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، فإن فقدان الأمازون لن يكون مجرد خسارة بيئية للبرازيل، بل نكسة كبرى للمعركة العالمية ضد تغير المناخ.