بين الإنجاز والتراجع المقلق.. كيف تُهدد السياسات الجديدة حقوق الإنجاب في الأرجنتين؟

بين الإنجاز والتراجع المقلق.. كيف تُهدد السياسات الجديدة حقوق الإنجاب في الأرجنتين؟
احتجاجات مؤيدة للإجهاض

 

شهدت الأرجنتين تحولًا كبيرًا في مسار حقوق الإنجاب منذ ديسمبر 2023، حين بدأت حكومة الرئيس خافيير ميلي في تقويض برامج الصحة الجنسية والإنجابية ضمن سياسة عامة للتقشف، ما أثار موجة قلق محلية ودولية، ولم تقتصر القرارات الأخيرة على إلغاء برامج وطنية أو تقليص التمويل، بل امتدت لتشكل تهديدًا مباشرًا لإمكانية الوصول إلى الإجهاض الآمن، وهو حق أقره القانون الأرجنتيني عام 2020 بعد عقود من النضال النسوي، وتعيد هذه التطورات إلى الواجهة صراعًا قديمًا بين المكاسب التشريعية والقيود العملية التي تُضعف قدرة النساء والفتيات على ممارسة حقوقهن.

بحسب تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أقر البرلمان الأرجنتيني في ديسمبر 2020، قانونًا يتيح الإجهاض حتى الأسبوع الرابع عشر من الحمل، في خطوة وُصفت بالتاريخية ليس فقط للأرجنتين، بل لأمريكا اللاتينية بأسرها، وهذا الإنجاز جاء نتيجة عقود من العمل الحقوقي الذي قادته "الموجة الخضراء"، الحركة النسوية الأوسع في المنطقة، التي رفعت شعار العدالة الإنجابية والمساواة، وخلال الأعوام التالية، ساهمت برامج وطنية مثل البرنامج المخصص لمنع الحمل غير المقصود لدى المراهقات في خفض معدلات الخصوبة بين المراهقات بنسبة قاربت 50% بين عامي 2018 و2021، مما عُد نموذجًا يُحتذى في السياسات الإقليمية.

التحول السياسي وتداعياته

منذ تولي ميلي السلطة في الأرجنتين، ألغت الحكومة المركزية التوزيع الوطني لأدوية ميسوبروستول وميفيبريستون، وهما أساسيتان للإجهاض الآمن ومعالجة الإجهاضات الطبيعية، كما أُوقفت حملات توزيع وسائل منع الحمل، بما في ذلك الوسائل الطارئة وأجهزة اختبار الحمل، وأُلغي البرنامج الوطني لمنع الحمل غير المقصود لدى المراهقات، وخلقت هذه الإجراءات حالة من "الغموض والخوف"، بحسب تقرير مركز دراسات الدولة والمجتمع (CEDES)، الذي أشار إلى أن الخطاب السياسي المعادي للإجهاض أدى إلى نشر معلومات مضللة، وعرض النساء الحوامل والعاملين في القطاع الصحي لمخاطر متزايدة.

على الرغم من أن الإجهاض لا يزال قانونيًا حتى الأسبوع الرابع عشر، فإن تطبيقه أصبح يعتمد على موارد الحكومات المحلية ومبادرات فرق الرعاية الصحية، وأدى هذا الوضع إلى تفاوت صارخ بين الولايات ففي بعض المناطق لا تتجاوز نسبة المرافق العامة التي توفر خدمات الإجهاض 2%، بينما تصل إلى 90% في مناطق أخرى، والنتيجة هي حرمان النساء في المناطق الفقيرة من الحق في الرعاية الصحية المتكافئة، ما يعمق أوجه عدم المساواة الاجتماعية والجغرافية.

التداعيات الإنسانية والاقتصادية

تشير الاستطلاعات الأخيرة إلى أن نحو نصف النساء يضطررن إلى دفع تكاليف مرتبطة بالإجهاض من جيوبهن، خصوصًا تكاليف الفحوص بالموجات فوق الصوتية، هذا العبء المالي يُثقل كاهل الأسر الفقيرة ويُفاقم من معاناة الفئات الأكثر هشاشة، وبحسب بيانات منظمات صحية محلية، فإن ارتفاع معدلات الحمل غير المرغوب فيه بين المراهقات منذ بداية 2024 قد يُنذر بتراجع في المكاسب التي تحققت على مدار العقد الماضي، كما أن حرمان النساء من وسائل منع الحمل والإجهاض الآمن يزيد من مخاطر الوفيات الناجمة عن الحمل غير المرغوب فيه والإجهاض غير الآمن، وهو ما يُشكل تهديدًا مباشرًا لحق الحياة والصحة.

ردود فعل محلية ودولية

أثارت الإجراءات الأخيرة انتقادات واسعة من منظمات المجتمع المدني الأرجنتيني، التي وصفتها بأنها انتكاسة لحقوق أساسية كافحت الأجيال السابقة من أجل ترسيخها، من جانبها، حذرت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية من أن هذه السياسات تُخالف التزامات الأرجنتين بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). 

الأمم المتحدة بدورها شددت على أن حرمان النساء من الإجهاض الآمن يشكل انتهاكًا لحق الخصوصية والكرامة، ودعت السلطات الأرجنتينية إلى ضمان الوصول العادل إلى خدمات الصحة الإنجابية.

البُعد الإقليمي والدولي

الأرجنتين، باعتبارها أول دولة كبيرة في أمريكا اللاتينية تُشرع الإجهاض، كانت ملهمة لحركات نسوية في تشيلي والمكسيك وكولومبيا، واليوم، يخشى ناشطون أن يؤدي التراجع الحالي إلى تقويض هذا الزخم الإقليمي، ويمنح مساحة أوسع للحركات المحافظة المناهضة لحقوق الإنجاب، كما يثير الوضع تساؤلات حول مصداقية التزامات الدولة في المحافل الدولية، خاصة وأن الأرجنتين لعبت دورًا بارزًا في دعم قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصحة الإنجابية في السنوات الأخيرة.

وفقًا لتقديرات وزارة الصحة السابقة، أسهمت البرامج الوطنية بين 2018 و2021 في تقليص الحمل غير المقصود بنسبة ملحوظة، ما أنقذ آلاف الأرواح وخفّض تكاليف النظام الصحي، أما في 2024 فقد لوحظت فجوات في توافر الأدوية، حيث لم تقم الحكومة المركزية بشراء ميسوبروستول أو ميفيبريستون، ما أجبر الحكومات المحلية على تحمل العبء، وتُبرز هذه الأرقام أثر غياب السياسات الوطنية الموحدة، وتوضح أن كلفة التراجع لا تُقاس فقط بالأرقام، بل بحياة النساء والفتيات.

القانون الدولي كإطار إلزامي

القانون الدولي لا يترك مجالًا للالتباس، فالحق في الصحة الإنجابية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، وقد أكدت لجنة سيداو ولجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مرارًا أن الدول ملزمة بتوفير خدمات الصحة الإنجابية، بما في ذلك الإجهاض الآمن، دون تمييز أو عوائق مالية، والإجراءات التي تتخذها الحكومة الأرجنتينية قد تُعد خرقًا لهذه الالتزامات، ما يفتح الباب أمام مساءلة دولية متزايدة.

الآفاق المستقبلية

المجتمع المدني في الأرجنتين يقاوم التراجع عبر حملات توعية وتحالفات مع حكومات محلية لتعويض غياب السياسات الوطنية، لكن الاستدامة تبقى موضع شك، ما لم يتم استئناف البرامج المركزية، ومستقبل حقوق الإنجاب في الأرجنتين يتوقف على قدرة الفاعلين المحليين والدوليين على الضغط لإعادة الاعتراف بحق النساء والفتيات في اتخاذ قراراتهن الخاصة بأجسادهن.

ما يحدث في الأرجنتين اليوم يمثل اختبارًا لمتانة المكاسب الحقوقية في مواجهة السياسات المحافظة، فالقوانين وحدها لا تكفي إذا لم ترافقها إرادة سياسية لضمان التطبيق العادل والشامل، وفي قلب هذه الأزمة، تقف نساء وفتيات يواجهن قرارات مصيرية بين الحياة والموت، وهو ما يجعل من قضية الصحة الإنجابية ليس مجرد ملف سياسي، بل قضية إنسانية تمس جوهر الكرامة الإنسانية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية