بين تجارة مربحة وحقوق مهدرة.. كيف تكشف شكاوى النقابات العمالية هشاشة الاتفاقيات التجارية؟

بين تجارة مربحة وحقوق مهدرة.. كيف تكشف شكاوى النقابات العمالية هشاشة الاتفاقيات التجارية؟
أحد العمال في مزارع الموز

 

رغم أن الإكوادور تُعد أكبر مصدر للموز في العالم، وتغطي صادراتها ما يقارب ثلث تجارة الموز العالمية، يعيش آلاف العمال الزراعيين في ظروف لا تليق بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وأعادت شكوى حديثة رفعتها نقابات عمالية ومنظمات حقوقية إلى المفوضية الأوروبية تسليط الضوء على سلسلة طويلة من الانتهاكات، تتراوح بين غياب الحماية من المبيدات، وانتهاك الحق في التنظيم النقابي، إلى التمييز ضد النساء والتحرش الجنسي، والمفارقة أن هذه الانتهاكات تُرتكب في ظل اتفاقية تجارية بين الإكوادور والاتحاد الأوروبي تُلزم الأطراف باحترام حقوق العمل والمعايير البيئية.

وفق تقرير نشرته شبكة "latinamericareports" شكل الموز العمود الفقري لصادرات الإكوادور ومصدراً أساسياً للعملة الصعبة، منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن النمو الاقتصادي الذي جلبته هذه التجارة لم ينعكس بالضرورة على العمال في الحقول، الذين غالباً ما يفتقدون حقوقا أساسية مثل الأجر العادل والتأمين الصحي، ورغم دخول اتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي حيّز التنفيذ عام 2017 (بشكل مؤقت) ورسمياً في نوفمبر 2024، لا تزال ممارسات الاستغلال تتكرر، في ظل تقاعس السلطات المحلية عن الرقابة الفعلية.

الانتهاكات الموثقة

تقارير نقابية وحقوقية حديثة توثق انتهاكات حقوق العمال ممثلة في ساعات عمل شاقة تمتد من السادسة صباحاً حتى التاسعة مساءً، وغياب أي التزام بمعدل الأجر اليومي المعلن من قبل وزارة العمل، إضافة إلى ذلك، يُحرم العمال من حقهم في تكوين الجمعيات أو المفاوضة الجماعية، حيث يتعرض أعضاء النقابات لمضايقات وفصل تعسفي، ما يعكس سياسة ممنهجة لتجريم النشاط العمالي.

الأخطر أن العاملين يتعرضون لمواد كيماوية عالية السمية، أبرزها "مانكوزيب" المحظور في الاتحاد الأوروبي بسبب تأثيراته على الصحة الإنجابية، وأظهرت دراسة أجرتها منظمة ASTAC بالتعاون مع جامعة سيمون بوليفار أن 11% من عينات البول المأخوذة من العمال احتوت على بقايا المبيد، ما يشير إلى تعرض واسع النطاق، وشهادات ميدانية تؤكد أن العمال يفتقرون إلى أبسط معدات الوقاية، مثل القفازات أو الأقنعة.

النساء في مواجهة مزدوجة

من صور انتهاكات حقوق العمال التمييز ضد النساء العاملات في مزارع الموز قضية أخرى كشفتها النقابات، فالنساء يتقاضين أجوراً أقل رغم ساعات العمل المماثلة للرجال، ويواجهن في بعض الحالات تحرشاً جنسياً من قبل المشرفين، وبدلاً من حماية الضحايا، غالباً ما ينتهي الأمر بفصلهن من العمل، وهذه الانتهاكات تضع الإكوادور في مواجهة التزاماتها بموجب اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو).

ردود الفعل الحقوقية والدولية

منظمات مثل هيومن رايتس ووتش، الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، وأكشن إيد شددت على أن انتهاكات كهذه تُقوّض جوهر اتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي، التي تضم فصلاً كاملاً حول التنمية المستدامة وحماية العمال، والشكوى المقدمة إلى المفوضية الأوروبية اعتُبرت "ملاذاً أخيراً" بعد أن استنفدت النقابات كل السبل الوطنية.

من جانبه، أكد متحدث باسم المفوضية الأوروبية أن بروكسل تدرس شكوى الإكوادور في إطار نظام التحكيم وآليات التواصل مع المجتمع المدني، وهو ما يفتح الباب لاحتمال فرض ضغوط على الإكوادور لاحترام التزاماتها.

الآثار المترتبة على العمال تتجاوز حدود مكان العمل، وتعرض الأمهات الحوامل للمبيدات يهدد الأجنة، وغياب التأمين الصحي يترك العائلات بلا حماية عند الإصابة بأمراض مزمنة مرتبطة بالتعرض الكيميائي، كما يؤدي غياب الأجر العادل إلى دفع الأطفال للعمل في الحقول لمساندة أسرهم، ما يعيد إنتاج حلقة الفقر عبر الأجيال.

القانون الدولي والالتزامات المهدرة

الإكوادور طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما يفرض عليها التزامات بحماية الحق في العمل اللائق والصحة، كما أن اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن الحرية النقابية والمفاوضة الجماعية (اتفاقية 87 و98) تُعد مرجعية أساسية تُلزم الدولة بحماية النقابيين، مع ذلك، تظهر التقارير أن السلطات غالباً ما تصطف مع مصالح الشركات المصدّرة، بدلاً من توفير آليات إنفاذ القانون.

تداعيات اقتصادية وسياسية

تصدير الموز يمثل نحو 2.9 مليار دولار من دخل الإكوادور سنوياً، أي ما يقارب 30% من صادراتها الزراعية، وأي ضغوط من الاتحاد الأوروبي، المستورد الأكبر، قد تضع الحكومة أمام خيار صعب: إما تحسين ظروف العمال أو مواجهة تهديد بفرض عقوبات تجارية، وسياسياً، قد تتحول القضية إلى عامل ضغط داخلي مع اقتراب الانتخابات، خصوصاً في المناطق الزراعية التي يعتمد سكانها على هذه الصناعة.

في الختام، قضية عمال الموز في الإكوادور تكشف التناقض الصارخ بين وعود التنمية المستدامة في الاتفاقيات التجارية وواقع الاستغلال في الحقول، وما بين قمع النقابات، التسميم بالمبيدات، والتمييز ضد النساء، تبدو حقوق آلاف العمال مُهددة بشكل يومي، ومع دخول الاتحاد الأوروبي على خط الشكوى، قد تشكل هذه الأزمة اختباراً جدياً لمدى جدية الاتفاقيات الدولية في حماية الحقوق الإنسانية، بعيداً عن لغة الأرقام والعوائد الاقتصادية فإن الاستجابة الفعّالة لهذه القضية لا تقتصر على حماية العمال فحسب، بل على صون كرامة إنسانية تُنتهك كل يوم في سبيل ثمرة الموز التي تصل إلى موائد العالم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية