عامان من الحرب.. غزة بين العنف والركام والبحث عن أفق للنجاة وعودة الحياة

عامان من الحرب.. غزة بين العنف والركام والبحث عن أفق للنجاة وعودة الحياة
الحرب على غزة

بعد مرور عامين على اندلاع الحرب في غزة إثر الهجوم الذي شنته حركة حماس وفصائل فلسطينية مسلحة على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، لا تزال دوامة العنف تدور بلا توقف، تاركة خلفها مآسي إنسانية متراكمة، ودمارًا غير مسبوق، وشعبًا يعيش على حافة البقاء، فبينما كان العالم يتابع في ذلك اليوم الصادم ما وُصف بأنه أعنف هجوم على إسرائيل منذ تأسيسها، كانت بذور واحدة من أكثر الحروب تدميرًا في القرن الحادي والعشرين تُزرع في قطاع غزة، لتتحول بسرعة إلى كارثة إنسانية عالمية الصدى.

منذ الساعات الأولى للهجوم، الذي أسفر عن مقتل أكثر من 1250 شخصًا في إسرائيل واختطاف نحو 250 آخرين، بينهم نساء وأطفال، ردّت إسرائيل بحملة عسكرية واسعة النطاق على القطاع، ومع مرور الأيام، اتسعت العمليات الجوية والبرية لتطول كل مدينة وشارع في غزة، وتحولت الحرب إلى فصل مفتوح من المعاناة اليومية.

في الأسابيع الأولى، أعلن الجيش الإسرائيلي أن هدفه “القضاء على حماس”، لكن الواقع الميداني سرعان ما تجاوز الشعارات، فالمباني السكنية والمستشفيات والمدارس أصبحت أهدافًا متكررة، ومعها انهارت بنية الحياة المدنية.

ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، بلغ عدد الضحايا الفلسطينيين خلال العامين أكثر من 67 ألف شخص، بينهم ما لا يقل عن 70 في المائة من النساء والأطفال، فيما تجاوز عدد الجرحى المئة ألف شخص، وخلال الحرب استشهد 1.670 من الطواقم الطبية، و140 من الدفاع المدني و254 من الصحفيين، و176 من موظفي البلديات بينهم 4 رؤساء بلديات، وأكثر من 787 من شرطة وعناصر تأمين المساعدات، وكذلك 894 من الحركة الرياضية من جميع الألعاب الرياضية.

أما المشهد الإنساني فيصفه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بأنه “كارثة تتفاقم بلا هوادة”.

حصار ومعاناة بلا نهاية

قطاع غزة اليوم يعيش تحت حصار خانق امتد لعقود، لكنه ازداد قسوة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية، وتشير تقارير برنامج الأغذية العالمي إلى أن تسعة من كل عشرة أشخاص في غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن بعض المناطق تواجه خطر المجاعة الفعلية، وأكثر من مليوني شخص، أي معظم سكان القطاع، يعتمدون بالكامل على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، في حين أن إيصال المساعدات يواجه عراقيل متكررة بسبب القيود الإسرائيلية وانعدام الأمان على الأرض.

ويقول توم فليتشر، منسق الإغاثة في حالات الطوارئ، إن الأمم المتحدة خصصت ملايين الدولارات لضمان استمرار إمدادات الوقود الحيوية لتشغيل المستشفيات ومحطات تحلية المياه والمخابز، لكن هذه الجهود تبقى “نقطة في بحر الاحتياجات”.

في المستشفيات التي ما زالت تعمل جزئيًا، تُعالج الجراح في ممرات ضيقة وبأدوات محدودة، وغالبًا في غياب الكهرباء أو الأدوية الأساسية، أما الأطفال حديثو الولادة، فكثير منهم يتشاركون حاضنة واحدة، كما أفادت وزارة الصحة في غزة، ما يجعل خطر العدوى والموت قائمًا في كل لحظة.

الدمار المادي والنفسي

الدمار في غزة لم يعد مجرد مشهد بصري لمدن مهدمة، بل حالة نفسية جماعية يعيشها السكان، فتقارير وكالة الأونروا تشير إلى أن أكثر من 80 في المئة من البنية التحتية للقطاع تضررت أو دمرت، بما في ذلك أكثر من 60 ألف وحدة سكنية سُويت بالأرض، ويعيش مئات الآلاف من النازحين في مدارس تحولت إلى ملاجئ مكتظة، أو في خيام نصبت فوق أنقاض منازلهم، بينما تفشت الأمراض المعدية مع تدهور الصرف الصحي ونقص المياه النظيفة.

وتصف منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، لين هاستينغز، الوضع بأنه “حالة إنسانية مزمنة ومركبة”، مؤكدة أن “المدنيين يُتركون ليموتوا ببطء، في ظل غياب حل سياسي ورقابة دولية فعالة”.

منذ اندلاع الحرب، صدرت عشرات الإدانات والدعوات إلى ضبط النفس من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان، لكن ميزان الفعل ظل مختلاً، فمجلس الأمن أصدر عدة قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات دون عوائق، إلا أن التنفيذ ظل معطلاً بسبب الانقسامات السياسية.

الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وصف الحرب بأنها “اختبار قاسٍ للضمير الإنساني”، محذرًا من أن “استمرار القتال يهدد بتفجير المنطقة بأكملها”، كما شدد على ضرورة الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين فورًا، وإنهاء معاناة المدنيين في الجانبين.

وفي المقابل، واصلت منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” و“العفو الدولية” والمرصد الأورومتوسطي توثيق ما وصفته بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، من بينها الاستهداف العشوائي للمدنيين واستخدام الحصار كسلاح حرب، وطالبت تلك المنظمات بإجراء تحقيقات مستقلة ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب المحتملة.

عامان من الانكسار الإنساني

تُجمع تقارير المنظمات الأممية على أن الحرب في غزة أدت إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث، فنحو 85 في المائة من سكان القطاع نزحوا من منازلهم مرة واحدة على الأقل، وأكثر من مليون شخص يعيشون اليوم في ظروف تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.

وقد أشار المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، إلى أن “غزة أصبحت رمزًا للعجز الدولي أمام معاناة البشر”، مؤكدا أن “التكرار اليومي للفظائع لا يجب أن يجعل العالم غير مبالٍ، لأن الصمت شريك في المأساة”.

أما الأطفال، الذين يشكلون نصف سكان القطاع، فهم الأكثر تضررًا، آلاف منهم فقدوا ذويهم، وبعضهم يتجولون في المخيمات دون مأوى أو تعليم، وحذرت اليونيسف من أن الجيل الجديد يُولد في بيئة من الصدمات المستمرة، مشيرة إلى أن أكثر من 600 ألف طفل يعانون من اضطرابات نفسية خطيرة بسبب مشاهد العنف المتكررة.

خسائر غزة الاقتصادية تُقدّر بأكثر من 20 مليار دولار وفق البنك الدولي، إذ توقفت معظم الأنشطة الاقتصادية، وتدمرت مناطق الصناعة والزراعة والتجارة، وتجاوزت البطالة حاجز الـ70 في المئة، فيما انهارت القدرة الشرائية للسكان، أما إعادة الإعمار فتبدو بعيدة المنال، في ظل غياب اتفاق سياسي واضح وضمانات أمنية على الأرض.

ورغم طرح عدة مبادرات إقليمية ودولية لوقف إطلاق النار، فإن الجهود السياسية تصطدم بمعضلات معقدة، أبرزها مصير قطاع غزة بعد الحرب، ودور السلطة الفلسطينية، ومطالب إسرائيل الأمنية، وفي خضم هذه الحسابات، يبقى المدنيون هم الخاسر الأكبر.

ضمير العالم على المحك

في الذكرى الثانية للحرب، أعادت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الإنسانية دعوتها إلى “إنهاء العنف والعودة إلى مسار سياسي جاد”، مؤكدين أن الحل العسكري وحده لا يمكن أن يحقق الأمن ولا السلام لأي طرف.

وفي كلمته الأخيرة أمام مجلس الأمن، قال غوتيريش إن “الطريق إلى السلام يبدأ بالاعتراف بالإنسانية المشتركة”، مشددًا على أن “المدنيين في غزة وإسرائيل يستحقون أكثر من استمرار الدمار والدماء”.

بينما تظل أصوات الأمهات في غزة وإسرائيل تتقاطع في المأساة نفسها، يبقى الأمل في أن تتحول الذكرى الثانية لهذه الحرب إلى نقطة مراجعة ضمير، لا مجرد محطة جديدة في سجل الألم، فبعد عامين من الدمار، أصبحت غزة أكثر من قضية سياسية؛ إنها جرح مفتوح في جسد الإنسانية جمعاء.

جذور متشابكة وحصار ممتد

يعود السياق الأوسع لهذه الحرب إلى سلسلة طويلة من المواجهات بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة منذ سيطرة حركة حماس على القطاع في عام 2007، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بعام واحد، ومنذ ذلك الحين فرضت إسرائيل حصارًا بريًا وبحريًا وجويًا على غزة، بحجة منع تهريب السلاح إلى حماس، فيما اعتبرته الأمم المتحدة “عقابًا جماعيًا” لنحو مليوني إنسان.

شهد القطاع خلال تلك السنوات ثلاث حروب كبرى قبل حرب 2023، كانت أكثرها تدميرًا في عامي 2014 و2021، خلّفت آلاف الشهداء والجرحى وموجات متكررة من النزوح، ومع استمرار الجمود السياسي بين السلطة الفلسطينية في رام الله وحماس في غزة، ظل القطاع معزولًا اقتصاديًا وسياسيًا، يعاني من انهيار البنى التحتية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية.

كما ساهم غياب عملية سلام حقيقية منذ أكثر من عقدين، واستمرار التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وتصاعد التوترات في القدس الشرقية، في خلق بيئة من الاحتقان المزمن والانفجارات الدورية للعنف، ومع مرور السنين، أصبحت غزة رمزًا للاختناق السياسي والإنساني في آن واحد، ومختبرًا لفشل المجتمع الدولي في إيجاد تسوية عادلة ودائمة للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

اليوم، وبعد عامين من الحرب الأخيرة، يبدو أن هذا الفصل من المأساة لا يزال مفتوحًا على احتمالاتٍ مجهولة، فيما تظل غزة تنزف تحت الحصار والركام، شاهدةً على فشل العالم في ترجمة التعاطف إلى فعل، وعلى هشاشة السلام حين يُستبدل بالأمن المسلح والخوف المتبادل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية