في الذكرى الخمسين.. هل تعود أوروبا لمبادئ "هلسنكي" لإحياء الديمقراطية وحقوق الإنسان؟

في الذكرى الخمسين.. هل تعود أوروبا لمبادئ "هلسنكي" لإحياء الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
جانب من مؤتمر وارسو للبعد الإنساني 2025

في مشهد يعيد إلى الأذهان روح اتفاقية هلسنكي التاريخية قبل خمسة عقود، دعا زعماء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا خلال مؤتمر وارسو للبعد الإنساني 2025 إلى تجديد الالتزام العالمي بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، باعتبارها الركائز الحقيقية للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.

وجاءت الدعوة وسط تصاعد الأزمات الدولية، من الحروب الممتدة في أوكرانيا إلى تصاعد النزعات القومية وتراجع الحريات العامة، ما جعل المنظمة تدق ناقوس الخطر بشأن مستقبل القيم التي قامت عليها أوروبا الحديثة.

عودة إلى الجذور

وفق الموقع الرسمي للمنظمة عقد المؤتمر الذي استمر عشرة أيام بمشاركة نحو 1886 شخصاً من ممثلي الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني، برئاسة فنلندا التي تتولى حالياً قيادة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وشكل المؤتمر أكبر تجمع من نوعه خلال السنوات الأخيرة لمناقشة حالة الديمقراطية والحريات في المنطقة، وأكدت وزيرة الخارجية الفنلندية، إلينا فالتونين، أن المجتمع المدني يشكل “الأساس الحقيقي للاستقرار”، مشددة على ضرورة حماية المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والنشطاء الشباب الذين يواجهون ضغوطاً متزايدة في بيئات سياسية معقدة.

اتفاقية هلسنكي الختامية، الموقعة عام 1975 بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا، لم تكن مجرد وثيقة سياسية، بل إعلاناً إنسانياً شاملاً، إذ نصت على أن الأمن لا يمكن فصله عن احترام حقوق الإنسان، وأن العدالة والكرامة هما الشرطان الأساسيان لأي استقرار طويل الأمد، وكانت تلك اللحظة بمثابة ولادة جديدة لمفهوم الأمن الشامل، الذي يوازن بين السيادة الوطنية والالتزامات الأخلاقية تجاه الإنسان.

تآكل الديمقراطية وتحديات المرحلة

وأفاد مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان بأن العالم يواجه اليوم “واقعاً قاسياً” يتمثل في تآكل الحريات العامة وتضييق الحيز المدني، مشيرة إلى أن تراجع الديمقراطية لا يقسم المجتمعات فحسب، بل يقوض أمنها، وأضافت أنه من أوكرانيا إلى القوقاز مروراً بوسط آسيا، تتزايد الانتهاكات ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، بينما تتعرض المؤسسات الديمقراطية لضغوط غير مسبوقة.

وفقاً لتقارير حديثة صادرة عن منظمة "فريدوم هاوس"، شهدت حرية التعبير وتكوين الجمعيات تراجعاً في أكثر من 60 في المئة من دول منطقة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا خلال العقد الأخير، كما أشار تقرير الأمم المتحدة الأخير حول حالة المدافعين عن حقوق الإنسان إلى أن عدد حالات الاعتقال والتهديد ضد النشطاء والصحفيين في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى ارتفع بنسبة 40 في المئة منذ عام 2020.

المجتمع المدني والانكماش الديمقراطي

شارك في مؤتمر وارسو نحو 900 منظمة مجتمع مدني، في ما يقرب من 120 فعالية جانبية ناقشت قضايا تتعلق بحرية التجمع والمعتقد والدين، إضافة إلى الحريات الإعلامية، وأجمعت المداخلات على أن تقلص المساحات المدنية لم يعد ظاهرة محلية، بل خطر يهدد بنية الأمن الأوروبي نفسه، فالمنظمات الحقوقية تعتبر أن المجتمعات التي تقمع حرية الرأي وتغلق المجال أمام المبادرات المدنية تفقد تدريجياً قدرتها على التماسك والاستقرار.

وأكدت منظمة الأمن والتعاون أن الأمن الحقيقي لا يقوم على السلاح بل على الثقة وتعزيز المبادئ الإنسانية، مشدداً على أن “الدبلوماسية تبني ما لا تبنيه الأسلحة”، وأن احترام المبادئ الديمقراطية هو الضمانة الوحيدة لأمن جماعي مستدام، وهذه الدعوة تأتي في وقت تتراجع فيه الثقة بين الدول، وتتصاعد فيه النزاعات المسلحة والاضطرابات السياسية، ما يجعل من إعادة إحياء قيم هلسنكي أمراً أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

ومن أبرز المحاور التي ناقشها المؤتمر مسألة حرية الصحافة؛ فقد شددت المنظمة على أن “تشويه سمعة الصحفيين ووسائل الإعلام المستقلة أصبح استراتيجية خطيرة تهدد الأمن والديمقراطية في المنطقة”، داعية الحكومات إلى تنفيذ التزاماتها المتعلقة بحماية الصحفيين من العنف والترهيب، وأكدت أن “الصحافة المستقلة هي الترياق الأهم للتضليل الإعلامي وأداة لا غنى عنها للحفاظ على الاستقرار المجتمعي”.

تشير بيانات الاتحاد الدولي للصحفيين إلى أن نحو 80 صحفياً قُتلوا أو اختفوا في دول منظمة الأمن والتعاون خلال العقد الماضي، وأن مئات آخرين تعرضوا للاعتقال أو المضايقات القضائية، وتعتبر هذه الأرقام مؤشراً على عمق الأزمة التي تمر بها حرية الإعلام في أوروبا، خاصة في مناطق النزاع.

الأمن السياسي والإنساني

أحد المحاور الرئيسية في مؤتمر وارسو كان إعادة تعريف الأمن بوصفه مفهوماً إنسانياً، لا عسكرياً فحسب، فالدول الأعضاء الـ57 في المنظمة أقرت بأن الأمن المستدام لا يمكن أن يتحقق دون ضمان الكرامة الإنسانية والعدالة، ووفق القانون الدولي، يعدّ احترام حقوق الإنسان التزاماً قانونياً وأخلاقياً في أوقات السلم والحرب على حد سواء، وقد ركزت النقاشات على ضرورة ضمان المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال النزاعات المسلحة، وتمكين الضحايا من الوصول إلى العدالة.

وفي هذا السياق، حذرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان من أن غياب المساءلة يشكل أحد أخطر العوامل التي تؤدي إلى تكرار الانتهاكات واستمرار النزاعات، مشيرة إلى أن أكثر من 70 في المائة من ضحايا الانتهاكات الجسيمة في مناطق النزاع لا يحصلون على أي تعويض أو اعتراف قانوني.

منذ توقيع وثيقة هلسنكي عام 1975، شهد العالم تحولات جذرية، فبينما أسهمت الاتفاقية في إنهاء الحرب الباردة وتأسيس نظام أمني قائم على التعاون، إلا أن السنوات الأخيرة كشفت عن هشاشة هذا النظام في مواجهة النزاعات الحديثة، فعودة التوتر بين الشرق والغرب، وتصاعد النزاعات المسلحة والهجمات السيبرانية وتضييق الحريات، كلها مؤشرات إلى أن النظام الذي أرسته هلسنكي بحاجة إلى تجديد عميق.

منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش رحبت بدعوة منظمة الأمن والتعاون إلى إعادة إحياء القيم الديمقراطية، لكنها حذرت في بيانات منفصلة من أن “الالتزامات اللفظية لا تكفي” ما لم ترافقها إجراءات ملموسة، من بينها ضمان استقلال القضاء، ومكافحة الإفلات من العقاب، ووقف استهداف المدافعين عن الحقوق الأساسية.

عقد جديد من الديمقراطية

اختتم مؤتمر وارسو للبعد الإنساني أعماله بنداء جماعي إلى دول أوروبا لإعادة الالتزام بروح هلسنكي، عبر سياسات تضع الإنسان في قلب الأمن، ويؤكد المشاركون أن حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان ليست مسؤولية الحكومات وحدها، بل هي واجب جماعي يشمل المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والمؤسسات الدولية.

إن التحدي الأكبر أمام العالم اليوم لا يكمن فقط في مواجهة الحروب أو الأزمات الاقتصادية، بل في حماية الإنسان نفسه من التهميش والخوف وفقدان الثقة، ومن هنا، فإن العودة إلى مبادئ هلسنكي ليست استدعاءً للماضي، بل محاولة لبناء مستقبل أكثر أمناً وعدلاً وإنسانية، تُحترم فيه الكرامة، ويعلو فيه صوت الإنسان فوق صخب السياسة والسلاح.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية