تدابير غير إنسانية.. البابا لاوون الرابع عشر يندد بإساءة معاملة المهاجرين المستضعفين
تدابير غير إنسانية.. البابا لاوون الرابع عشر يندد بإساءة معاملة المهاجرين المستضعفين
في خطاب اتسم بوضوح الموقف الإنساني وصرامة النقد الأخلاقي، حمّل البابا لاوون الرابع عشر، الحكومات التي تسيء معاملة المهاجرين المستضعفين مسؤولية ارتكاب “جرائم خطيرة” باسم الأمن والسيادة، محذرًا من تحول الخوف من الآخر إلى سياسة رسمية تطمس القيم الإنسانية.
جاءت تصريحات بابا الفاتيكان الخميس خلال لقائه منظمات المجتمع المدني المشاركة في اللقاء الدولي الخامس للحركات الشعبية في روما، حيث تناول قضايا اجتماعية ملحّة من بينها أوضاع المهاجرين، وأزمة المواد الأفيونية في الولايات المتحدة، والاستغلال المرتبط باستخراج المعادن الاستراتيجية وفق فرانس برس.
توازن الحدود والواجب الأخلاقي
أكد البابا أن للدول الحق والواجب في حماية حدودها، لكنه شدد على أن هذا الحق يجب أن يتوازن مع الواجب الأخلاقي في توفير المأوى والحماية للضعفاء الفارين من الجوع أو الحروب أو الاضطهاد، وقال في كلمته: إساءة معاملة المهاجرين المستضعفين ليست ممارسة مشروعة للسيادة الوطنية، بل جرائم خطيرة ترتكبها الدولة أو تتسامح معها
ووصف بابا الفاتيكان بعض التدابير المتخذة بحق المهاجرين بأنها غير إنسانية، مشيرًا إلى أنها أصبحت تُحتفى بها سياسيًا وكأنها إنجازات، في حين أنها تحوّل أشخاصًا يائسين إلى أرقام أو عبء يُلقى بعيدًا كما لو كانوا قمامة، لا بشرا يستحقون الكرامة والرحمة.
صدى في سياق أوروبي متوتر
تأتي هذه التصريحات في ظل جدل متصاعد في أوروبا حول سياسات الهجرة غير النظامية، وخصوصًا في إيطاليا التي تتصدر خطوط المواجهة مع موجات القادمين عبر المتوسط.
وتنتهج حكومة جورجيا ميلوني، زعيمة اليمين الإيطالي، سياسة صارمة تجاه الهجرة، تتضمن تقييد عمليات الإنقاذ التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية في البحر، معتبرة أن تلك العمليات تشجع المهاجرين على المخاطرة، وقد واجهت الحكومة انتقادات حادة من المفوضية الأوروبية ومنظمات حقوقية على حد سواء.
وفي هذا السياق، بدا خطاب البابا لاوون الرابع عشر بمثابة تذكير أخلاقي بأن الإنسان يجب أن يبقى في قلب السياسات، لا على هامشها، على حد تعبيره، في إشارة إلى أن حماية الحدود لا تبرر انتهاك حقوق الإنسان الأساسية.
مأساة جديدة قبالة السواحل التونسية
تزامن خطاب البابا مع مأساة جديدة تمثلت في غرق قارب قبالة سواحل تونس أودى بحياة نحو أربعين مهاجرًا غير نظامي كانوا في طريقهم إلى أوروبا.
وتعيد هذه الفاجعة إلى الأذهان تكرار حوادث الغرق التي تحصد سنويًا آلاف الأرواح في البحر المتوسط، والذي يوصف بأنه أخطر طريق للهجرة في العالم.
ووفق بيانات المنظمة الدولية للهجرة، فقد لقي أكثر من 2500 شخص حتفهم في المتوسط منذ بداية عام 2025، في ارتفاع واضح مقارنة بالسنوات السابقة، وتطالب الأمم المتحدة دول الاتحاد الأوروبي بزيادة الدعم لعمليات البحث والإنقاذ وتحسين آليات الاستقبال، بينما تشير منظمات إنسانية إلى أن السياسات المتشددة هي أحد أسباب ارتفاع حصيلة الضحايا.
انتقادات للسياسات غير الإنسانية
تعكس كلمات البابا قلق الكنيسة الكاثوليكية من تصاعد الخطاب السياسي الذي يربط المهاجرين بالأمن القومي أو بالإرهاب، ففي الأشهر الماضية، شهدت عدة دول أوروبية سنّ تشريعات أكثر صرامة لتقييد الهجرة، بينما وُثقت حالات طرد جماعي من الحدود دون إجراءات قانونية.
وترى منظمات كـ“أطباء بلا حدود” و“العفو الدولية” أن هذه السياسات تُقنن ما تسميه إدارة الخوف، حيث تُصوَّر الهجرة كتهديد بدل أن تُعامل كظاهرة إنسانية تتطلب التضامن الدولي.
وفي المقابل، دافعت حكومات أوروبية عن تشديد الرقابة باعتباره وسيلة للحد من الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، معتبرة أن الرحمة يجب أن تقترن بالمسؤولية، لكن البابا يرى أن الأمن الحقيقي لا يتحقق بإغلاق الأبواب، بل بفتح القلوب أمام من تقطعت بهم السبل.
من الهجرة إلى الإدمان والمعادن
لم يقتصر خطاب البابا على ملف الهجرة، ففي سياق حديثه عن الجرائم الصامتة التي تفتك بالمجتمعات الحديثة، انتقد الحبر الأعظم صناعة الأدوية في الولايات المتحدة بسبب دورها في تفاقم أزمة المواد الأفيونية، وقال إن الترويج الواسع لمسكنات الألم التي تُسبب الإدمان يشكل خيانة للواجب الأخلاقي الطبي، داعيًا الشركات إلى “تحمل مسؤوليتها عن معاناة الملايين الذين فقدوا حياتهم أو صحتهم بسبب الجشع".
كما تطرق إلى قضية استخراج المعادن الاستراتيجية المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية كالهواتف المحمولة، محذرًا من أن الطلب المتزايد على تلك المعادن يؤدي إلى عنف شبه عسكري، وتشغيل الأطفال، وتشريد السكان في مناطق التعدين، خصوصًا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وأضاف أن التكنولوجيا التي تُبنى على استغلال البشر لا يمكن أن تُعتبر تقدمًا، بل عبودية جديدة في ثوب عصري.
رسالة عالمية بلسان إنساني
يقدم خطاب البابا لاوون الرابع عشر رؤية متكاملة لمفهوم العدالة الأخلاقية التي تتجاوز الحدود الجغرافية، فهو، من جهة، يذكّر الدول الغنية بمسؤولياتها تجاه المهاجرين والضعفاء، ومن جهة أخرى، يدين النماذج الاقتصادية التي تضع الربح فوق الإنسان.
ويرى محللون في الفاتيكان أن هذه الرسائل تؤسس لحبرية تتبنى التجديد الاجتماعي، أي أن الكنيسة لن تكتفي بدعوات الرحمة، بل ستسعى إلى تحريك الضمير العالمي تجاه السياسات التي تولّد الظلم والعنف.
صوت الضمير في عالم متغير
مع تزايد النزاعات والاحتباس السياسي والاقتصادي حول العالم، يبرز خطاب البابا الجديد كنداء إنساني لإعادة تعريف مفهوم الأمن والسيادة في ضوء الكرامة البشرية، فحين يقول إن إساءة معاملة المهاجرين جريمة ترتكبها الدولة أو تتسامح معها، فإنه لا يخاطب أوروبا وحدها، بل كل نظام يغفل الإنسان في سعيه للسيطرة أو الحماية.
وفي عالم تتراجع فيه اللغة الأخلاقية لصالح حسابات السياسة، يذكّر البابا بأن الحدود التي لا تعبرها الرحمة تصبح جدرانًا للعزلة والخوف.











