بين طموح الحياد الكربوني وضغوط الاقتصاد.. الاتحاد الأوروبي يسابق الزمن لخفض الانبعاثات

بين طموح الحياد الكربوني وضغوط الاقتصاد.. الاتحاد الأوروبي يسابق الزمن لخفض الانبعاثات
اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي

اتفق قادة الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم الأخيرة على اعتماد نهج أكثر مرونة في مسار خفض الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2040، في خطوة تعكس الموازنة الدقيقة بين الالتزامات المناخية والمخاوف الاقتصادية التي تهيمن على دول التكتل في مرحلة حساسة من التحول الأخضر، وأكد البيان الختامي أن الهدف المستقبلي سيخضع لمراجعة دورية في ضوء أحدث الأدلة العلمية والتطورات التكنولوجية والمتغيرات الاقتصادية، على أن يشمل التقييم مدى قدرة الاقتصاد الأوروبي على الحفاظ على تنافسيته العالمية خلال هذه المرحلة الانتقالية.

هذا القرار يأتي في إطار التحضير لمرحلة ما بعد عام 2030، حيث يسعى الاتحاد إلى بناء جسر من الاستدامة بين هدف خفض الانبعاثات بنسبة 55 في المئة بحلول 2030 والوصول إلى الحياد الكربوني الكامل عام 2050، وفق وكالة الأنباء الألمانية، وقد أوصت المفوضية الأوروبية في وقت سابق بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 90 في المئة بحلول 2040 مقارنة بمستويات عام 1990، وهو مقترح لا يزال يثير نقاشًا واسعًا بين الدول الأعضاء حول جدواه الاقتصادية ومدى واقعيته في ظل التحديات الصناعية والطاقوية الراهنة.

الجمع بين الطموح والمرونة

رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا شدد في تصريح عقب القمة على أن طموحات أوروبا المناخية لا يمكن فصلها عن قدرتها على المنافسة، مشيرًا إلى ضرورة الجمع بين الطموح والمرونة، ودعا كوستا إلى دعم التقنيات الجديدة مثل التقاط الكربون من الغلاف الجوي وتطوير أنظمة شهادات الجودة البيئية الدولية، بما يسمح بإيجاد توازن بين حماية الكوكب واستدامة النمو الاقتصادي.

من جانبها، ترى المفوضية الأوروبية أن وضع هدف مرحلي لعام 2040 هو عنصر حيوي لضمان استمرارية المسار المناخي الأوروبي وعدم ترك فجوة زمنية بين مرحلتي 2030 و2050، وهو ما أكدته الهيئة الاستشارية العلمية الأوروبية للتغير المناخي التي أوصت بأن يكون التخفيض بين 90 و95 في المئة، مستندة إلى النماذج العلمية التي تشير إلى أن هذا المستوى من الطموح ضروري للحفاظ على مسار الارتفاع الحراري دون تجاوز 1.5 درجة مئوية.

غير أن الوصول إلى هذا الهدف لا يبدو ميسّرًا في ظل التباينات الواضحة بين الدول الأعضاء، فبينما تدفع الدول الإسكندنافية وهولندا باتجاه تبنّي خفض صارم بنسبة 90 في المئة بوصفه التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا بموجب اتفاق باريس، تتحفّظ دول أخرى كألمانيا وإيطاليا وبولندا على الطابع الإلزامي الكامل لهذا الهدف، مطالبة بإدراج آليات مرنة تسمح باستخدام الائتمانات الكربونية الدولية لتعويض جزء من الانبعاثات المحلية، وترى هذه الحكومات أن الاقتصادات المعتمدة على الصناعات الثقيلة والطاقة الأحفورية تحتاج إلى فترة انتقالية أطول لتجنّب خسائر فادحة في الوظائف والإنتاج.

ضغوط منظمات البيئة والمجتمع المدني

وفي خضم هذه المداولات، يزداد الضغط من منظمات البيئة والمجتمع المدني التي تخشى من أن تؤدي المرونة المفرطة إلى تقويض الهدف الأساسي، فقد حذّرت شبكة العمل المناخي الأوروبية من أن إدخال ما يسمى بآليات التعويض الدولي قد يتحول إلى وسيلة لتأجيل التخفيضات الفعلية داخل الاتحاد، ووصفت الاقتراح الأوروبي بأنه طموح من حيث الأرقام لكنه هش من حيث التنفيذ، وفي السياق نفسه، اعتبرت مؤسسة مراقبة أسواق الكربون أن الإفراط في الاعتماد على الائتمانات الخارجية سيضعف سوق الانبعاثات الأوروبي ويحدّ من الابتكار في الطاقة النظيفة والصناعة الخضراء.

أبعاد إنسانية واقتصادية

ورغم هذا الجدل، يتفق الخبراء على أن تحقيق هدف 2040 يحمل أبعادًا إنسانية لا تقل أهمية عن أبعاده الاقتصادية والبيئية، فخفض الانبعاثات بنسب كبيرة يعني تحسّن جودة الهواء وانخفاض معدلات الأمراض التنفسية والقلبية التي ترتبط مباشرة بالتلوث، وتشير تقارير وكالة البيئة الأوروبية إلى أن تلوث الهواء يتسبب سنويًا في وفاة أكثر من 300 ألف شخص داخل القارة، ما يجعل من الجهود المناخية قضية صحية واجتماعية بامتياز.

كما أن التحول الطاقي يسهم في تعزيز الأمن الغذائي والمائي من خلال الحد من موجات الجفاف والفيضانات التي أصبحت أكثر تكرارًا وشدة في السنوات الأخيرة. غير أن هذه المكاسب تتطلب إدارة عادلة للانتقال، بحيث لا تتحمل المناطق الصناعية القديمة والعاملون في القطاعات الأحفورية وحدهم عبء التغيير، ومن هنا، تدعو المنظمات الحقوقية إلى اعتماد مبدأ العدالة المناخية، القائم على توزيع منصف للتكاليف والمكاسب بين الفئات الاجتماعية والجهات الجغرافية المختلفة داخل الاتحاد الأوروبي.

وتبرز قضية الوظائف كأحد المحاور المركزية في النقاش الدائر، فالتحول نحو اقتصاد منخفض الكربون يَعِد بخلق مئات الآلاف من الوظائف في مجالات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والنقل الكهربائي، لكنه في الوقت نفسه يهدد بفقدان عشرات الآلاف من الوظائف التقليدية في قطاعات الفحم والغاز والنفط، لذلك يطالب الاتحاد الأوروبي بإطلاق برامج لإعادة التأهيل والتدريب وإعادة دمج العمال المتأثرين ضمن سوق العمل الجديد، في إطار ما يُعرف بـ"الصفقة الخضراء العادلة".

دور الاتحاد كقوة مناخية

على الصعيد الدولي، يُنظر إلى الخطوة الأوروبية على أنها اختبار جديد لدور الاتحاد كقوة مناخية عالمية، فبعد عقود من تصدره المشهد البيئي، يواجه اليوم منافسة متزايدة من الولايات المتحدة والصين اللتين تضخان استثمارات ضخمة في الطاقة النظيفة، وترى الأمم المتحدة أن التزام أوروبا سيشكل معيارًا تقيس عليه الدول الأخرى جديتها في خفض الانبعاثات، خاصة قبيل قمم المناخ المقبلة التي ستُعيد تقييم تعهدات اتفاق باريس لعام 2015.

لكن منظمات حقوق الإنسان، إلى جانب مجموعات البيئة، ترى أن أوروبا لا يمكن أن تكتفي بإعلان الأهداف دون ربطها بالمسؤولية القانونية عن الانبعاثات التاريخية، فالدول الأوروبية ساهمت على مدى قرنين في إنتاج نسبة كبيرة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهي مطالَبة اليوم بدعم الدول النامية في جهودها للتحول الطاقي من خلال تمويلات المناخ ونقل التكنولوجيا، بما يتوافق مع مبدأ المسؤوليات المشتركة لكن المتباينة الذي أقره القانون الدولي البيئي.

وتدرك مؤسسات الاتحاد الأوروبي أن المسار نحو 2040 سيكون اختبارًا للقدرة على تحقيق التوازن بين الطموح والممكن، ولهذا تضمنت التوصيات الختامية ضرورة إجراء مراجعة مرحلية للهدف كل خمس سنوات استنادًا إلى مستجدات العلم والتكنولوجيا والوضع الاقتصادي العالمي، بما يضمن مرونة التنفيذ دون الإخلال بالغاية الأساسية المتمثلة في خفض الانبعاثات بشكل فعلي داخل أراضي الاتحاد.

وإذا كانت أوروبا قد نجحت حتى الآن في تقليص انبعاثاتها بنسبة تقارب 30 في المئة مقارنة بعام 1990، فإن تحقيق تخفيض بنسبة 90 في المئة في أقل من عقدين سيحتاج إلى تسريع غير مسبوق في سياسات التحول الطاقي، وزيادة كبيرة في الاستثمار في الطاقة المتجددة والبنية التحتية الكهربائية الحديثة، وتشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن القارة تحتاج إلى استثمار سنوي يتجاوز 500 مليار يورو في قطاعات الطاقة المستدامة والنقل النظيف والابتكار البيئي لتحقيق الأهداف المعلنة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية