"لسنا محايدين".. دعوات ألمانية لمواجهة تنامي العنف الفكري والتطرف في المدارس
"لسنا محايدين".. دعوات ألمانية لمواجهة تنامي العنف الفكري والتطرف في المدارس
في تصعيد لافت تجاه ما بات يُعرف بالعنف الفكري والتطرف المدرسي، دعا الرئيس الألماني فرانك‑فالتر شتاينماير ووزيرة التعليم كارين برين، المدرّسين والمعلمين في ألمانيا إلى رفض الحياد في مواجهة الحوادث ذات الطابع المتطرف داخل المدارس في ألمانيا.
وقال شتاينماير، خلال تصريحات إعلامية، إن المدرّسين لا يجوز أن يغضّوا الطرف عند مواجهتهم مواقف يعبر فيها التلاميذ عن أفكار عنصرية أو معادية للسامية، سواء في الصف أو خارج نطاقه.
ومن جانبها، قالت برين: المدرّسون ليسوا محايدين مطلقاً بصفتهم ممثلين للدولة الدستورية، ولا يجوز لهم أن يكونوا كذلك، موضحة أن الأرضية التعليمية قائمة بوضوح على مناهضة ازدراء الإنسان والتعسف وفق وكالة الأنباء الألمانية.
الأسباب التي تحفّز التحول
يشير هذا التحول في الخطاب الرسمي الألماني إلى عدة معطيات متشابكة:، أولاً، ازدياد الحوادث ذات الطابع المتطرف داخل المدارس والمناطق المدرسية، فقد كشفت تقارير أنه على سبيل المثال في عامي 2023–2024، ارتفعت الحوادث المعادية للسامية وأعمال التطرف داخل المدارس في ألمانيا بنسبة لا تقل عن ثلاثين بالمئة.
ثانياً، وضع المعلمين تحت ضغط كبير في فصول تزدحم بقضايا سلوكية وتعليمية معقدة، إذ توصل مسح أجراه «بارومتر المدرسة الألماني» إلى أن نحو 47 بالمئة من المعلمين يرون أن مدارسهم تواجه مشاكل نفسية أو جسدية بين التلاميذ، في حين تصل النسبة إلى 69 بالمئة في المناطق المحرومة اجتماعياً.
ثالثاً، ضعف التوثيق والنظام الموحد لتسجيل الأحداث المتطرفة في المدارس، إذ أوضحت الوزيرة برين أن عدم وجود توثيق موحد يعد خللاً بالغاً، وفق ما نقل عنه. كما أشارت بيانات إلى أن عشر ولايات فقط من أصل ست عشرة لديها نظام لتوثيق الحوادث، في حين تعتمد الولايات الأخرى على إحصاءات الشرطة.
التداعيات الإنسانية والقيمية
إن مطالبة المعلمين بعدم الحياد عند مواجهتهم أفكاراً متطرفة ليست مجرد إجراء إداري، بل تمس البنية الأخلاقية للمجتمع المدرسي وللدولة ذاتها، وينطوي الحياد في مواجهة التطرف، مثل العنصرية أو معاداة السامية، على رسالة ضمنية مفادها أن تلك الأفكار مقبولة أو ليس عليها رد فعل.
ومن الناحية الإنسانية، فإن الفصول المدرسية التي تُترك بدون معالجة لأفكار التطرف تتحول إلى بيئات تُعزّز شعور التهميش أو الإقصاء لدى التلاميذ المعرضين أو المستهدفين، ما يقوّي التوتر ويضعف الشعور بالانتماء والكرامة.
كما أن المدرسة بوصفها مؤسسة تعليمية واجتماعية تعمل على تشكيل مواطنين أحراراً ومشاركين في المجتمع، لا يمكن أن تكون مساحة حياد مطلق أمام قوى تسعى لتقويض القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ردود المنظمات الحقوقية
منظمات نقابية في ألمانيا أكّدت أن المدرّسين يجب أن يظهروا موقفاً واضحاً ضد التطرف وعدم التسامح، لافتة إلى أن الحياد في مثل هذه الحالات ليس خياراً.
وقد ربطت الموقف التعليمي بمبدأ إجماع بويتلسباخ؛ وهو ميثاق تربوي معتمد منذ نحو 50 عاماً في ألمانيا ينصّ على أن التربية السياسية يجب أن تتيح مناقشة القضايا من زوايا متعددة، لكن ليس من موقع حياد تجاه القيم الأساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان.
على الصعيد الدولي، فإن الالتزامات الناشئة عن القانون الدولي لحقوق الإنسان -مثل المادة 26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تكفل الحقّ في التعليم- تستلزم أن تضع المدارس إطاراً يحترم الكرامة والمساواة، ويمنع الترويج لأفكار الكراهية أو التمييز.
خلفية تاريخية وبنية المشكلة
يمكن فهم هذا التوجّه الحكومي في سياق تاريخ طويل يمتد إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث سعت ألمانيا إلى بناء مجتمع مدني ينهض على مصونة الديمقراطية وحفظ الكرامة الإنسانية، في مواجهة إرث النازية والتطرف اليميني، وقد أرست القوانين المدرسية في الولايات الألمانية ميثاقاً يربط المدرسة بالديمقراطية والتعددية.
لكن منذ سنوات، سجلت أجهزة الأمن الألمانية ارتفاعاً في عدد المنتمين إلى التيارات اليمينية المتطرفة، ووصف الوزير الاتحادي للداخلية هذا التطرّف بأنه تهديد «كبير» للديمقراطية.
في المدارس، تم رصد توزيع منشورات جماعات يمينية متطرفة من قبيل حركة "هوية" داخل أروقة المدارس، ما يكشف محاولات تنشيط النفوذ الأيديولوجي بين التلاميذ.
محور المسؤولية التربوية
تدعو المبادئ التربوية المعاصرة إلى أن المدرسة ليست مجرد مكان لتحصيل المعرفة، بل حقل لتنشئة مواطنين قادرين على التفكير النقدي والمشاركة الديمقراطية، ومن هذا المنطلق، عندما يُطلب من المعلمين ألا يكونوا محايدين تجاه أفكار التطرف، فإنهم يُساءلون دورهم بوصفهم وسطاء في التكوين الاجتماعي والقيمي للجيل الجديد.
إذ إن الحياد في مواجهة الكراهية والمواقف المعادية للسامية أو الديمقراطية يمكن أن يترجم في الواقع إلى غياب الرد، ما يترك فراغاً قد يتسرب إليه التطرف ويصبح داخلياً مرفوعاً إلى فعل.
لكن هذا لا يعني أن المعلمين يتحولون إلى دعاة سياسيين، بل أن النظام التربوي في ألمانيا يؤكد على مبدأ عدم الإخضاع وضرورة عرض مختلف وجهات النظر، مع موقف واضح ضد ما هو متمرد على القيم الديمقراطية، فوفق إجماع بويتلسباخ، يجب أن تُعرض القضايا الجدلية بأساليب متعددة، ولا يُعرض الرأي الشخصي بوصفه حقيقة مطلقة.
توصيات منسجمة مع الواقع
يتطلّب التطبيق الفعلي لهذا التوجّه الحكومي عدداً من الخطوات وفق آراء حقوقية تتمثل في: أولاً، تطوير نظام توثيق موحّد للحوادث ذات الطابع المتطرف داخل المدارس على مستوى الولايات، حيث تبين أن عشر ولايات فقط لديها هذا النظام.
ثانياً، تزويد المدرّسين بتدريب متخصص في كشف ومعالجة خطابات التطرف والتعصب داخل الفصل، ومع دعم نفسي للمدرّسين الذين يواجهون ضغوطاً أو تهديدات في هذا المجال، كما تشير تقارير بأن العنف داخل المدارس ينعكس على الإرهاق المهني للمعلمين.
ثالثاً، إدماج المناهج التعليمية التي تعزز الثقافة الديمقراطية والمساواة وتنمّي روح التسامح، مع إشراك التلاميذ في أنشطة تستكشف جذور التطرف وأسبابه وكيفية مواجهته.
أخيراً، تشجيع الشراكات بين المدارس ومنظمات المجتمع المدني والجهات الحقوقية لتوفير منصات مبكرة للكشف عن الخطاب التطرفي والتصدي له قبل أن يتغلغل في الفصول.
وفي ألمانيا اليوم، يتقاطع التعليم والقيم الديمقراطية في نقطة محورية تتمثل في ما إذا كان المعلم مجرد ناقل المعلومات أم حارس للكرامة والقيم الإنسانية داخل الفصول، والرسالة الرسمية التي أطلقها الرئيس شتاينماير ووزيرة التعليم برين تؤكد أن الحياد ليس موقفاً مقبولاً حين يتعلق الأمر باتجاهات تطرفية تهدّد الديمقراطية والمساواة، والمدارس، في هذا السياق، ليست ملاذاً للحياد، بل ساحات للحوار والتنشئة على قيم لا يُحتكم فيها إلى الصمت.










