بين الاعتقالات والإعادة القسرية.. سياسة الهجرة البريطانية تعيد تشكيل سوق العمل
بين الاعتقالات والإعادة القسرية.. سياسة الهجرة البريطانية تعيد تشكيل سوق العمل
أعلنت وزارة الداخلية البريطانية عن تسجيل عدد قياسي من المهاجرين غير الشرعيين الموقوفين خلال العام المنتهي في سبتمبر، في إطار حملة حكومية مشدّدة تهدف إلى الحدّ من العمل غير القانوني وتقليص عوامل الجذب للأجانب في سوق العمل المؤقت.
ووفقاً لبيانات نشرتها صحيفة "التليغراف" البريطانية الأربعاء، فقد تم اعتقال 8232 عاملًا غير قانوني خلال تلك الفترة، بزيادة بلغت نحو 63 في المئة مقارنة بـ 5043 حالة في العام السابق، ما يمثل أعلى معدل اعتقال على الإطلاق، كذلك نُفّذت أكثر من 11000 مداهمة على أماكن العمل، بارتفاع 51 في المئة عن العام السابق، وأُعيد ترحيل أكثر من 1050 شخصًا ممن تم ضبطهم في تلك العمليات.
تركّزت الحملة على قطاعات مثل مطاعم الوجبات السريعة، وصالونات التجميل، ومغاسل السيارات، وشركات توصيل الطعام، ضمن خطة بتمويل حكومي يقدّر بـ 5 ملايين جنيه إسترليني لتعزيز جهود الاعتقال والترحيل، ومن المقرر أن تطلق الوزارة مشاورات عامة لمدة ستة أسابيع بشأن توسيع نطاق عمليات التحقق من الحق في العمل لتشمل مزيدًا من أصحاب العمل والعاملين في الاقتصاد المؤقت، مع اقتراح عقوبات تصل حتى السجن خمس سنوات أو غرامة 60 ألف جنيه إسترليني لأصحاب العمل الذين يُثبت توظيفهم عمالاً غير قانونيين.
وزيرة الداخلية شابانا محمود وصفت العمل غير القانوني بأنه ينشئ دافعاً للهجرة غير الشرعية إلى بلادنا، وقد انتهى ذلك الآن، مؤكدة أن من يُكتشف أنه يعمل بشكل غير قانوني سيتم احتجازه ثم ترحيله، وأن الدولة ستبذل قصارى جهدها لتأمين حدود بريطانيا.
أسباب الحملة وتشديد الرقابة
تستند الحملة الحكومية إلى مجموعة من الأسباب المعلنة: أولاً، رؤية أن العمل غير القانوني يجذب مهاجرين عبر طرق غير مشروعة، في محاولة للحد من ضغط الدخول غير المصرّح به للبلاد، وثانياً، حماية سوق العمل مما يُعدّ تخريبًا للمنافسة العادلة في قطاعات تنشط فيها اليد العاملة الرخيصة، وثالثاً، ردّ سياسي على ضغوط الرأي العام الذي يرى أن الهجرة غير المنضبطة تشكّل عبئًا على الخدمات العامة والعمالة المحلية.
كما أظهرت استطلاعات مثل تلك التي أجرتها YouGov، إذ يرى نحو 47 في المئة من البريطانيين أن عدد المهاجرين غير الشرعيين يفوق عدد المهاجرين القانونيين.
لكن ما يجب ملاحظته أن هذه الإجراءات تأتي في سياق تاريخي طويل، عرفته بريطانيا بسياسات البيئة المعادية للمهاجرين التي أُطلقت في بدايات العقد الماضي، والتي استهدفت جعل الحياة في البلاد صعبة على المقيمين دون وضع قانون، وتلك السياسات قُوبلت بإدانة من منظمات حقوق الإنسان باعتبارها خلقت فئة عمالة تحت الأرض معرضة للاستغلال.
التداعيات الإنسانية والحقوقية
من الناحية الإنسانية، يرتبط ارتفاع الاعتقالات والحملات بمخاطر متعددة منها: أولًا، يُصبح المهاجر غير القانوني معرضًا للاعتقال في أماكن العمل، ما يُعقّد إمكانية الوصول إلى حقوق العمل أو الخدمات، ويُرسّخ وضعًا من الانكفاء الاجتماعي والاقتصادي.
وأشار تقرير لمنظمة “Labour Exploitation” بشأن العمال المهاجرين في لندن إلى أن العمال في وضع غير قانوني غالبًا ما يعملون في وظائف منخفضة الأجر وبيئات غير منظمة، ما يزيد من خطر الاستغلال والتعسف.
ثانيًا، الحملة قد تشجّع على الخوف والتسلّط على العاملين المهاجرين، حيث إنهم قد يمتنعون عن الإبلاغ عن ظروف سيئة أو استغلال خشية التوقيف أو الترحيل، وهو ما تحذّر منه منظمات مثل Work Rights" Centre"، و ثالثًا، من الناحية الحقوقية.
ويرى مراقبون أن الانتقال إلى سياسة كبرى في التحقق من الحق في العمل والتعاون مع الشركات (مثل توصيل الطعام أو مغاسل السيارات) سيجلب مخاطر على حقوق العمال والمهاجرين، خصوصاً إذا افتقدت الضمانات القانونية كما أن القانون الدولي لحقوق الإنسان من حيث الحق في العمل، وعدم التعرّض للتمييز، والحماية من الاستغلال يُعد قابلاً للتطبيق على هؤلاء العمال.
ردود المنظمات والحالة القانونية
منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية عبّرت عن قلقها من أن الحملة الجديدة تشكّل امتدادًا لسياسات سبق أن وُصفت بأنها خلقت طبقة غير مرئية من العمالة غير النظامية، وتقول منظمة العفو الدولية إن بريطانيا في تقاريرها لعام 2024 ما زالت تشهد سلوكاً من السلطات العمومية يؤثر سلباً في حقوق المهاجرين وأفراد الأقليات، وقد لفتت إلى أن سياسة البيئة المعادية أسهمت في حجب الوصول إلى الخدمات ومعوّقات الحصول على وضع قانوني.
على الصعيد التشريعي، يعدّ قانون الهجرة غير الشرعية الذي دخل حيز التنفيذ في 2023 جزءاً من الإطار الذي تستخدمه الحكومة لتشديد القيود ضد المهاجرين، لكنه أثار انتقادات حقوقية بأن بعض مكوناته تقضي على حق اللجوء وتضع أشخاصاً في دائرة التهديد بالتوقيف والترحيل، ما ينعكس على المهاجرين العاملين في الاقتصاد غير الرسمي.
من جانب أصحاب العمل، فإن التعاون الحكومي مع شركات التوصيل وتبادل البيانات بين وزارة الداخلية والقطاع الخاص، يفتح الباب أمام مزيد من الرقابة، ولكن منظمات العمال تحذّر من أن هذه الإجراءات إذا لم تُرفق بحماية قانونية، ستؤدي إلى تشديد أوضاع العمال المؤقتين.
الخلفية التاريخية والبُعد الاقتصادي
منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبدء تطبيق نظام الهجرة الجديد، تغيّرت بنية القوى العاملة خصوصًا في القطاعات التي اعتمدت على العمالة الأجنبية، ومع ظهور الاقتصاد المؤقت بدأت بعض الوظائف مثل توصيل الطعام، تنظيف السيارات، مغاسل السيارات، والعمل في صالونات التجميل تعتمد على عمالة مهاجرة بشكل واسع.
وأوضح تقرير من جامعة أوكسفورد أن تقديرات المهاجرين غير النظاميين في بريطانيا تتراوح بين نحو 700 إلى 900 ألف شخص، وإن البيانات الرسمية لا تحصيهم بدقّة.
تاريخياً، ساعد هذا الاعتماد على اليد العاملة الهامشية في تغذية سوقٍ موازٍ، يَنطوي على ضعف الرقابة والمعايير، ما جعل هذه القطاعات هدفاً مبكراً لحملات مكافحة العمل غير القانوني، ومع تبدّل الأولويات السياسية والمعيشية لدى البريطانيين، أصبحت هذه القطاعات محوراً لسياسات الحكومة الحاضرة التي تراها مساراً للحدّ من الهجرة غير المصرّح بها، وضغطًا على أصحاب العمل لتشديد التحقّق من الوضع القانوني للعمال.
تحليل مكثّف للأبعاد
إن رفع عدد الاعتقالات بنسبة 63 في المئة يشير إلى تغيير جذري في تكتيك حكومة بريطانيا تجاه الهجرة والعمالة غير النظامية، لكن في الوقت نفسه، يثير هذا تحذيرات من أن السياسات القائمة قد تؤدي إلى نتائج عكسية: فقد تصبح الشركات أكثر حذراً في توظيف العمالة المؤقتة، ما يضع المهاجرين في سوق عمل أكثر سرّيّة وخطورة، ويمنح أصحاب العمل المخالفين ميزة تنافسية غير قانونية.
من الناحية الاقتصادية، الحملة قد تقلّص العرض من العمالة الرخيصة في قطاعات ذات هوامش ربح منخفضة، ما قد يُفضي إلى ارتفاع التكاليف أو تراجع النمو في هذه القطاعات. ومن ثم، فإن التحدي المزدوج هو كيف توازن الحكومة بين ضبط الهجرة والعمل غير القانوني، وبين حماية حقوق العمال الرئيسيين في الاقتصاد الهش.
حقوقياً، إعمال سياسة العقوبات وتوسيع التحقّق من الحق في العمل رغم أهميته، يجب أن تُصاحبه ضمانات لحماية العمال من الاستغلال، وضمان وصولهم إلى العدالة، أو الحق في المطالبة بحقوقهم دون خوف من الترحيل أو العقاب، وإلا فإن حكومة “التشديد” ستعيد إنتاج طبقة من العمالة الخفيّة المعزولة، ما يلحق ضرراً بحقوق الإنسان والمساواة.
أخيراً، من منظور الهجرة الشاملة، فالمسألة لا تقتصر فقط على عدد المهاجرين غير النظاميين أو الاقتصاد الموازي، بل ترتبط بكيفية دمج المهاجرين، وضمان عدالة سوق العمل، وإدارة تدفّق العمالة في الاقتصاد بصورة تراعي كرامة الإنسان، بدلاً من اعتبارهم مجرد هدف لاعتقال وترحيل.










