اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب.. صوت العدالة المفقود في حق الصحفيين

اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب.. صوت العدالة المفقود في حق الصحفيين
تشييع جثمان أحد الصحفيين في غزة- أرشيف

في الثاني من نوفمبر من كل عام، يُحتفل بـاليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، تذكيرًا بأن الحماية لا تكتمل إلا بالمحاسبة. وفي عام 2025، يركّز الاحتفال على التهديدات الرقمية التي تواجهها الصحفيات، خاصة في ظل التطورات السريعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يظهر أن التحديات لم تعد تُقاس فقط بالرصاص والقنبلة، بل بالكلمات المُعدّلة والمعارك الإلكترونية.

هذا اليوم، الذي اعُتمد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 68/163 في 2013، يهدف إلى دفع الدول للوفاء بالتزاماتها لوقف الهجمات والتأكد من تقديم مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين إلى العدالة، وضمان بيئة آمنة لعملهم المستقل، وقد تم اختيار التاريخ 2 نوفمبر أيضًا تكريما لذكرى اغتيال صحفيين فرنسيين في مالي عام 2013، وهو رمز للتضحية بالصحافة في ميادين الصراع العالمي، وفق منظمة اليونسكو.

لماذا يُحتفل بهذا اليوم؟ 

إن الاحتفال يعكس واقعًا مأساويًا مستمرًا: فالإفلات من العقاب هو عامل مهيمن في تمادي الجرائم ضد الصحفيين دون رادع قانوني. فحين لا يُحاسب الجاني، يُبعث برسالة مفادها أن الصحفي الذي ينقل الحقيقة مرشح لأن يُستهدف بلا عواقب.

في السياق الرقمي، تتعرض الصحفيات لهجمات خاصة تشمل تضليل مدفوع بالذكاء الاصطناعي، وتزييف عميق، ومراقبة الكترونية، والتحرش الممنهج عبر الإنترنت، وهو ما يُعرف بالعنف الجنساني الميسر بالتكنولوجيا، وتؤثر هذه الأشكال على حرية التعبير بوجه عام، إذ تدفع البعض إلى الصمت حفاظًا على أمنهم الشخصي.

تحليل حديث من دراسة "Shooting the Messenger؟" أظهر أن في الردود على منشورات الصحفيات تُوجّه رسائل إهانة وشتم جنسي أكثر من تلك التي تُوجَّه للزملاء الذكور، ما يبيّن أن العنف الرقمي يحمل بُعدًا اجتماعيًا وجندريًا عميقًا.

الأثر الإنساني 

عندما يُقتل صحفي أو يُضطهد صحفي ولم يُعاقب الجاني، فإن الأثر لا يطول الفرد فحسب، بل المجتمع ككل، وإن سعي الصحفيين لنقل الحقيقة يُعتبر ركيزة لحقوق المواطنين في المعرفة، إذ إن الإفلات من العقاب يخلق ثقافة الخوف، كما أن العائلات التي تفقد صحفيًا تعيش مأساة مزدوجة تتمثل في فقدان شخص كان صوتًا للمجتمع، وغياب العدالة التي تُسكّن الجروح، وأيضًا تُلحق جرائم الصمت بقطاعات كبيرة من الجمهور، إذ يُمنع الوصول إلى معلومات حقيقية عن الفساد والانتهاكات.

في العديد من الدول، لا يتم التحقيق في التهديدات الجسدية أو الرقمية بحق الصحفيين، ما يعزز الإفلات من العقاب؛ ويُعد هذا الوضع أحد أعراض تفكك مؤسسات الدولة وانهيار سيادة القانون.

ما تقوله الإحصاءات الحديثة

وفق أحدث بيانات اليونسكو، فإن نسبة القتل التي تظل بلا تحقيقات قضائية تصل إلى نحو 85 في المئة من حالات قتل الصحفيين في العالم.

في 2024، قُتل ما لا يقل عن 68 صحفيًا أثناء تأدية عملهم، حيث أكثر من 60 في المئة من هذه الجرائم وقعت في دول تشهد نزاعات مسلحة.

كما رصدت جهات أخرى أن 124 صحفيًا لقوا مصرعهم في عام 2024، مع تحميل الكثير من تلك الوفيات إلى النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، حيث بلغ عدد الضحايا من الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين وفق بيانات فلسطينية نحو 254 صحفياً، حتى وقف إطلاق النار في 2025، وبحسب مراقبة اليونسكو، منذ عام 1993 وحتى اليوم، قُتل أكثر من 1700 صحفي عالميًا، كما أن مرصد المنظمة يعقّب على الحالة القضائية للقضايا، ويوضح أن تسعاً من كل عشر حالات من جرائم القتل تظل بلا تنفيذ عقوبة. 

ردود الفعل الحقوقية

منظمات حقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر سنويًا في الثاني من نوفمبر، فهي تطالب بالتحقيقات المستقلة والمساءلة الحازمة، وتعتبر أن الإفلات من العقاب يهيئ لجرائم مكررة.

منظمة العفو الدولية في عدد من الحالات دعت إلى التحقيق في استهداف صحفيين في النزاعات، مثل اغتيال الصحفيين في لبنان بصاروخ استهدف مجموعة مراسلين بلبؤس، ووصفتها بأنها قد تصل إلى جرائم حرب تستوجب محاكمات دولية.

في غزة، أشارت منظمة مراسلون بلا حدود وغيرها إلى أن مئات الصحفيين الفلسطينيين لقوا مصرعهم خلال الحرب الإسرائيلية، وأن العديد من تلك القتلى لم تُحقق في قضاياهم، وأن إسرائيل تواصل الإفلات من المحاسبة. 

المفوضية السامية لحقوق الإنسان، واليونسكو، ومجلس حقوق الإنسان، كلها أصدرت بيانات تدعو الدول إلى حماية الصحفيين وتقديم ضمانات قانونية ضد العنف، وتنفيذ الخطة الأممية سلامة الصحفيين.

خطة عمل الأمم المتحدة 

اعتمدت الأمم المتحدة خطة العمل بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب في عام 2012، لتكون أول استراتيجية منهجية داخل المنظمة لمعالجة هذه القضية من خلال الوقاية والحماية والملاحقة القضائية.

خلال العقد الذي مضى، تم تأسيس آليات حماية وطنية في أكثر من 50 دولة، وتدريب آلاف القضاة وعناصر الشرطة على معايير حماية حرية التعبير والتحقيق في الجرائم ضد الصحفيين. 

كما أن الخطة أصبحت جزءًا من مؤشرات التنمية المستدامة، تحديدًا الهدف 16 الذي يدعو إلى ضمان وصول المعلومات وحماية الحريات.

مناسبة 2025 تُعد الذكرى السنوية العاشرة لتلك الخطة، وهي فرصة لإعادة الالتزام بها، لكن الواقع يُظهر أن التحديات باتت أكبر خاصة في مواجهة التهديدات الرقمية الجديدة والعنف الجنساني والتقنيات التي يمكن توظيفها ضد الصحفيات.

قبل اعتماد اليوم الدولي في 2013، كانت جرائم القتل والاعتداءات على الصحفيين تمر غالبًا ضمن سياقات نزاعات أو أنظمة قمعية، من دون توثيق دولي موحد، لكن مع تزايد النزاعات وتوسع الإعلام الرقمي، صار لزامًا خلق إطار دولي للتذكير بأن الصحفيين ليسوا أهدافاً.

شهدت السنوات الماضية تصاعدًا في استهداف الصحفيين في مناطق النزاع مثل أفغانستان، أو سوريا، أو مناطق المخدرات في أمريكا اللاتينية والمكسيك، حيث كثيرًا ما اختُطفوا أو اغتيلوا دون ملاحقة فعلية.

كما أن التقنية الحديثة أضافت بعدًا جديدًا للخطر: في السنوات الأخيرة، استخدمت الأنظمة أدوات الكترونية لتشويه سمعة الصحفيات، ومشاركاتهن على الإنترنت استُهدفت بتزييف الصور والفيديوهات العميقة، مما يدفع بعضهن إلى التوقف عن النشر بدافع الأمان الشخصي.

التحديات القانونية والفرص

يواجه المدعي العام والجهات القضائية في بعض الدول قصورًا في التشريع لحماية الصحفيين، بالإضافة إلى ضعف الإرادة السياسية، والتهديد المباشر من الجماعات المسلحة التي تعمد إلى التغطية القضائية.

كما يُستخدم في بعض الأماكن دعاوى التشهير أو قوانين "الأمن السيبراني" لكتم الصحفيين بدعوى مكافحة الإرهاب أو التشهير، ما يضعهم في مواجهة بين القانون والاستهداف.

لكن الفرص موجودة أيضًا ففي بلدان التزمت بالخطة الأممية وأحدثت آليات حماية داخلية، ظهرت مؤشرات تقليل في معدلات الجرائم بلا ملاحقة. بعض الدول أصدرت قوانين تتيح حماية المصادر وتسهيل التحقيقات العاجلة في الجرائم ضد الصحفيين.

كما أن التغطية الإعلامية الدولية والضغط من المنظمات الحقوقية يمكن أن تدفع الدول إلى اتخاذ خطوات أكثر جرأة نحو المساءلة.

الصحفيات في الفضاء الرقمي

 تركيز هذا العام على العنف الرقمي ضد الصحفيات ليس مصادفة، فالتهديدات عبر الإنترنت أصبحت ساحة جديدة للسيطرة على الصوت الإعلامي، حيث تُعرض الصحفيات لحملات منظمة من التضليل، والتحقير، وترويج مقاطع مزيفة بهدف الإسكات.

وفقًا لورقة المناقشة التي أعدتها اليونسكو، 73 في المئة من الصحفيات المشاركات أفدن بأنهن تعرضن للتهديد أو الترهيب على الإنترنت بسبب أعمالهن.

هذا النوع من الهجمات غالبًا ما يُعالج ببطء أو لا يُعالج نهائيًا في النظم القضائية، ما يتيح استمرارها دون رادع حقيقي.

في ذكرى 2025 نداء للتحول إلى العمل

في فعالية عام 2025 التي تُتّبع بفعالية افتراضية تُقام في باريس، سيحمل شعار "الدردشة حول العنف الجنساني"، لتسليط الضوء على الظلم المضاعف الذي تتعرض له الصحفيات في فضاء التقنية، ويُدعى الشركاء والمنظمات إلى تنظيم فعاليات وطنية، تشاركية وورش نقاش، لطرح حلول مبتكرة تعزز الوعي وتدعم التشريعات الوطنية.

الاحتفال في الثاني من نوفمبر ليس تذكارًا رمزيًا فقط، بل مناسبة لاستنهاض ضمائر الدول والمجتمعات من أجل إنهاء الإفلات من العقاب، فالصحفي هو مرآة الحقيقة، وكلما تم استهدافه ازداد الظلام في فضاءات الإعلام والواقع، وفي عصر الذكاء الاصطناعي والتهديد الرقمي، أصبحت المواجهة أكثر تعقيدًا، ولكن أيضًا أكثر أهمية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية