من القاهرة.. انطلاقة جديدة لخبراء عرب يسعون لإحياء الدور الحقوقي إقليمياً ودولياً
من القاهرة.. انطلاقة جديدة لخبراء عرب يسعون لإحياء الدور الحقوقي إقليمياً ودولياً
في قلب العاصمة المصرية القاهرة، وفي لحظة إقليمية تتسم بتصاعد الأزمات وتراجع الثقة بمنظومة العدالة الدولية، انطلقت الثلاثاء فعاليات اللقاء الثاني لتفعيل المبادرة المشتركة لتأسيس شبكة خبراء الأمم المتحدة العرب لحقوق الإنسان، وجمع اللقاء نخبة من الخبيرات والخبراء العرب السابقين والحاليين العاملين ضمن آليات الأمم المتحدة.
وفق بيان للمنظمة العربية لحقوق الإنسان جاءت الفعاليات بتنظيم مشترك بين المنظمة والمكتب الإقليمي لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، في محاولة لإعادة إحياء مسار تعثر لأكثر من عامين بفعل الاضطرابات السياسية والإنسانية التي اجتاحت المنطقة العربية.
اللقاء لم يكن فعالية بروتوكولية بقدر ما كان مساحة للتفكير الجماعي في كيفية استعادة الدور العربي داخل منظومة حقوق الإنسان الدولية، في وقت تتعرض فيه المنطقة لانتهاكات جسيمة، وتواجه فيه القيم الحقوقية اختبارات قاسية على أرض الواقع.
إحياء مسار متوقف
في كلمته الافتتاحية، أعرب المحامي علاء شلبي رئيس مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان عن تقديره العميق للمكتب الإقليمي للمفوضية السامية، مثمناً استجابة الخبراء العرب للمشاركة في هذا اللقاء، رغم ضغوط الواقع وتعقيد السياق الإقليمي.
وأوضح أن المبادرة لتأسيس شبكة الخبراء كانت قد انطلقت قبل أكثر من عامين، لكنها توقفت قسرا بسبب ما شهدته المنطقة من أزمات متلاحقة فرضت أولويات طارئة وأرهقت الإمكانات المؤسسية والموارد البشرية.
شلبي شدد على أن استئناف هذا المسار اليوم يعكس إيمانا متجددا بأهمية العمل الجماعي، وبالحاجة الملحة إلى تنظيم وتنسيق الخبرات العربية المتراكمة داخل منظومة الأمم المتحدة، بدلا من بقائها جهودا فردية معزولة تفتقر إلى التأثير المستدام.
رصيد عربي مهدر
وأكد رئيس مجلس الأمناء أن البلدان العربية تمتلك رصيدا هائلا من الخبرات الحقوقية التي راكمها خبراء عملوا لسنوات طويلة كمقررين خاصين، وأعضاء لجان تعاهدية، وخبراء مستقلين في آليات الأمم المتحدة المختلفة، ورأى أن هذا الرصيد المعرفي والتقني ظل لفترة طويلة غير مستثمر بالشكل الكافي لخدمة قضايا حقوق الإنسان في المنطقة، سواء على مستوى السياسات العامة أو تطوير التشريعات أو بناء القدرات المؤسسية.
وأشار إلى أن توظيف هذه الخبرات بشكل منظم يمكن أن يسهم في تعزيز احترام وحماية حقوق الإنسان، وربطها بمسارات التنمية والنهضة والرفاه، بدلا من النظر إليها باعتبارها عبئا سياسيا أو التزاما شكليا مفروضا من الخارج.
واستعاد شلبي الدور التاريخي الذي اضطلعت به المنظمة العربية لحقوق الإنسان منذ تأسيسها عام 1983، باعتبارها أحد أقدم بيوت الخبرة الحقوقية في المنطقة، وذكّر بإسهام المنظمة القيادي في التحضير والمشاركة بالمؤتمر العالمي الثالث لحقوق الإنسان في فيينا عام 1993، الذي شكل محطة مفصلية في تطوير المنظومة الدولية لحقوق الإنسان.
وأكد أن الشراكة مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ليست وليدة اللحظة، بل تمتد لأكثر من ثلاثة عقود، وشكّلت خلالها ركيزة أساسية لدعم عمل منظمات المجتمع المدني الحقوقية، وبناء جسور التواصل بين الفاعلين العرب والمنظومة الأممية.
بناء هيكل فاعل
ونوّه شلبي بجهود عدد من قيادات وخبراء المنظمة في الدفع نحو إنجاح المبادرة، وفي مقدمتهم بوبكر لركو عضو مجلس الأمناء ونائب الرئيس السابق للمنظمة، وهايدي علي الطيب كبيرة الباحثين بأمانة المنظمة، لدورهما في الإعداد والتنظيم واستضافة هذا اللقاء.
وأوضح أن المنظمة العربية لحقوق الإنسان وضعت بالفعل اللبنات الأساسية للقيام بمهام التنسيق والسكرتارية للشبكة المقترحة، معربا عن أمله في أن يسفر اللقاء عن تشكيل مجلس تنسيقي يتولى صياغة السياسات والبرامج العامة، والإشراف على تنفيذ الأهداف، بدعم كامل من المنظمة والمفوضية السامية.
واختتم شلبي كلمته بالتأكيد على أن تعقد وتشعب معايير حقوق الإنسان في العصر الحديث يستلزم المزج بين الخبرة الحقوقية والتخصصات الأخرى، مثل الاقتصاد والاجتماع والإدارة العامة.
وأعرب عن ثقته بقدرة الخبرات العربية المتميزة على تقديم مقترحات عملية تسهم في بناء السياسات العامة، وتطوير التشريعات الوطنية، وتعزيز القدرات المؤسسية، مجددا شكره للمفوضية السامية ومؤكدا يقينه بأن الشراكة المستمرة منذ عام 1993 ستواصل تحقيق نتائج ملموسة تخدم الرسالة المشتركة.
صوت المفوضية وتشخيص الواقع
من جانبه، أكد مازن شقورة الممثل الإقليمي للمفوضية السامية لحقوق الإنسان أن إنشاء شبكة للخبرات الحقوقية العربية لم يعد ترفا فكريا، بل ضرورة عملية لتعزيز الجهود وتوفير المساعدة التقنية للدول العربية في الوفاء بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، وثمن دور ومبادرة المنظمة العربية لحقوق الإنسان في إطلاق هذا المسار وإحيائه.
وأشار شقورة إلى أن ما تمر به المنطقة العربية، في ظل ما يجري في غزة ولبنان ومناطق صراع أخرى، يكشف محدودية الأدوات المتاحة حاليا داخل النظام الدولي، موضحا أن الردود الأقوى لم تأتِ إلا في نطاق ضيق، كما هي الحال مع بعض الخطوات الصادرة عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
وأكد الممثل الإقليمي أن كارثة غزة شكّلت لحظة كاشفة، ليس فقط لازدواجية المعايير التي تعاني منها المنظومة الدولية، ولكن أيضا لوجود خلل بنيوي عميق في مفهوم العدالة ذاته، واعتبر أن هذه اللحظة تفرض استحقاقات عاجلة لإصلاح النظام الدولي لحقوق الإنسان، وإعادة الاعتبار لقيمة العدالة كمرتكز أساسي لأي نظام عالمي مستقر.
ودعا شقورة إلى إعلاء صوت الخطاب الحقوقي العربي، وتعزيز حضوره في المحافل الدولية، بما يسمح للدول العربية بأن تكون فاعلا لا متلقيا فقط، مؤكدا أن تنفيذ مخرجات الاستعراض الدوري الشامل التي قبلتها الدول العربية يشكل خطوة أولى ضرورية لامتلاك القدرة على التأثير الحقيقي في المنظومة الدولية.
أزمة الأمم المتحدة
وتطرق شقورة إلى الأزمة المالية التي تمر بها الأمم المتحدة، محذرا من أنها باتت تهدد العمل الجماعي الدولي وتقوض الدبلوماسية متعددة الأطراف، وأكد أن هذه الأزمة لا تخص المنظمة وحدها، بل تمس مصالح الدول والشعوب التي يعول استقرارها على وجود نظام دولي فاعل وقادر على التدخل.
ودعا إلى حراك جماعي من الدول صاحبة المصلحة، خاصة تلك المتضررة من اختلالات النظام الدولي، للدفاع عن بقائه والحفاظ عليه، مع الدفع في اتجاه إصلاحه بما يجعله أكثر عدلا وقدرة على الاستجابة للأزمات الإنسانية المتفاقمة.
تأتي مبادرة تأسيس شبكة خبراء الأمم المتحدة العرب لحقوق الإنسان في سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد، يشهد تراجعا ملحوظا في فاعلية النظام الدولي، وتصاعد النزاعات المسلحة، واتساع فجوة الثقة بين الشعوب ومؤسسات العدالة العالمية، ورغم الحضور التاريخي لخبراء عرب في آليات الأمم المتحدة المختلفة، ظل تأثيرهم محدودا بسبب غياب الأطر التنسيقية الجامعة، وتهدف الشبكة المقترحة إلى سد هذا الفراغ، عبر إنشاء منصة مهنية مستقلة تجمع الخبرات العربية، وتعمل على توحيد الرؤى، وتقديم الدعم الفني للدول، والمساهمة في تطوير الخطاب الحقوقي العربي بما يعزز حضوره وتأثيره على الساحة الدولية.











