من رواتب متقطعة إلى الموت على أبواب المستشفيات.. استمرار الحرب يُفاقم مأساة المعلمين اليمنيين

من رواتب متقطعة إلى الموت على أبواب المستشفيات.. استمرار الحرب يُفاقم مأساة المعلمين اليمنيين
تعليم أحد الطفال في اليمن - أرشيف

يواجه قطاع التعليم في اليمن أزمة غير مسبوقة، حيث يعاني المعلمون من توقف الرواتب لسنوات، في حين تكتظ الفصول الدراسية بمئات الطلاب وسط بيئة تعليمية متدهورة. فالحرب المستمرة على مدى سنوات والانهيار الاقتصادي جعلا من التعليم رفاهية يصعب الوصول إليها، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، ما يهدد مستقبل الأجيال القادمة.

وفقاً لتقارير منظمة اليونيسف، يعاني أكثر من 70% من المعلمين في اليمن، انقطاع الرواتب منذ سنوات، مع تركيز هذه الأزمة بشكل أكبر في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة، وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 170 ألف معلم يمني يعيشون في فقر مدقع، مع عدم قدرتهم على توفير أبسط الاحتياجات الأساسية لأسرهم. 

وفي حدث أثار موجة حزن واسعة، توفي الأستاذ منصور دعقين، معلم اللغة الإنجليزية، بعد أن وُجد ملقى على الأرض في الطريق الرئيسية بمديرية وضرة، إحدى المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وكان الأستاذ منصور يعاني ظروفاً معيشية قاسية أجبرته على السير يومياً لمسافة 30 كيلومتراً لقضاء احتياجاته اليومية، بعد أن عجز عن دفع أجرة المواصلات بسبب انقطاع رواتبه منذ سنوات، وأفادت مصادر محلية أن الأستاذ منصور ظل يعتمد على المشي لمسافات طويلة، ما أدى إلى تدهور حالته الصحية ووفاته في النهاية، وقد عده زملاؤه وطلابه رمزاً للصبر والتفاني.

انهيار النظام التعليمي تحت حكم الحوثي 

تشير البيانات الصادرة عن منظمة اليونيسف إلى أن أكثر من 2.4 مليون طفل يمني خارج المدارس، في حين يعاني 4.5 مليون طفل آخرين من خطر التسرب بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ويعود جزء كبير من هذه الأزمة إلى انهيار النظام التعليمي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حيث يعتمد بقاء المدارس مفتوحة على جهود المعلمين الذين يعملون دون رواتب أو بدعم محدود من المنظمات الدولية.

ووفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي، فإن أكثر من 60% من المدارس في اليمن إما دمرت بشكل كلي أو جزئي، أو يتم استخدامها كمراكز إيواء للنازحين، كما أن نقص الكتب المدرسية والمواد التعليمية أصبح أمراً شائعاً، حيث لا تتوفر سوى 10% من الاحتياجات الأساسية للعملية التعليمية، وفي المناطق الخاضعة للحوثيين، تفاقمت هذه الأزمة بسبب تحويل جزء من الموارد التعليمية لخدمة أجندات الجماعة، بما في ذلك تغيير المناهج الدراسية لتعكس أيديولوجيتها.

وتشير تقارير حديثة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى أن الأزمة التعليمية في اليمن قد تؤدي إلى فقدان جيل كامل من الأطفال والمراهقين لحقهم في التعليم، وتنوه التقديرات إلى أن أكثر من 6 ملايين طفل يمني قد يتأثرون بشكل مباشر بانهيار النظام التعليمي، ما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات الأمية وتفاقم الفقر في المستقبل. 

وتلعب المنظمات الدولية دوراً محورياً في دعم التعليم في اليمن، حيث تقوم بتوفير المساعدات الإنسانية للمعلمين والطلاب وفقاً لتقارير اليونيسف، تم توفير أكثر من 50 مليون دولار لدعم التعليم في اليمن خلال العام الماضي، بما في ذلك توفير الكتب المدرسية والمواد التعليمية الأساسية، ومع ذلك، فإن هذه الجهود تبقى محدودة في ظل استمرار الحرب وعدم وجود حلول سياسية للأزمة. 

معاناة يومية للمعلمين 

يعيش المعلمون في المناطق الخاضعة للحوثيين أوضاعاً إنسانية صعبة، حيث أجبرتهم الظروف على البحث عن مصادر دخل بديلة، بعضهم يعمل في مهن بسيطة مثل بيع المياه أو الخضار في الأسواق، في حين يعتمد آخرون على المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات الدولية ومع ذلك، فإن هذه المساعدات لا تكفي لسد احتياجاتهم الأساسية، خاصة في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود.

وتشير تقارير محلية إلى أن العديد من المعلمين يعانون أمراضاً مزمنة بسبب سوء التغذية وعدم القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية، كما أن غياب الضمان الاجتماعي وعدم وجود نظام تقاعد يجعل مستقبلهم غير مضمون، ما يزيد من معاناتهم النفسية والاجتماعية.

وتفيد دراسات حديثة بأن الأزمة الاقتصادية والمعيشية في اليمن قد أثرت بشكل كبير في الصحة النفسية للمعلمين، وفقاً لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من 60% من المعلمين في اليمن من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، ما يؤثر سلباً في أدائهم التعليمي وقدرتهم على التواصل مع الطلاب. 

يلعب المجتمع المدني دوراً مهماً في دعم المعلمين والطلاب في اليمن، حيث تقوم العديد من الجمعيات المحلية بتوفير المساعدات الإنسانية والبرامج التعليمية، ومع ذلك، فإن هذه الجهود تبقى محدودة في ظل استمرار الحرب وعدم وجود دعم كافٍ من الجهات الدولية.

تأثير الأزمة في جودة التعليم 

أدى انقطاع الرواتب وتدهور الأوضاع المعيشية إلى تراجع كبير في جودة التعليم، وفقاً لتقرير صادر عن منظمة "سيف ذي تشيلدرن"، فإن أكثر من 80% من المعلمين في اليمن غير قادرين على توفير الوقت الكافي للتحضير للدروس أو تحسين مهاراتهم التعليمية بسبب انشغالهم بالبحث عن مصادر دخل أخرى. 

كما أن نقص الكوادر التعليمية المؤهلة أصبح مشكلة كبيرة، حيث ترك العديد من المعلمين المهنة بحثاً عن فرص عمل أخرى، وأشارت تقارير محلية إلى أن بعض المدارس تعتمد على متطوعين غير مؤهلين لسد العجز في الكوادر التعليمية، ما يؤثر سلباً في العملية التعليمية.

دعت منظمات دولية، بما في ذلك اليونيسف ومنظمة العمل الدولية، إلى ضرورة دعم المعلمين في اليمن من خلال توفير رواتب منتظمة وضمان حصولهم على الرعاية الصحية اللازمة، كما طالبت هذه المنظمات بضرورة إعادة تأهيل المدارس وتوفير المواد التعليمية الأساسية لضمان استمرار العملية التعليمية. 

من جهتها، أطلقت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً عدة مبادرات لدعم المعلمين، لكنها تبقى محدودة بسبب نقص التمويل، وفي هذا الصدد، قال وزير التربية والتعليم اليمني، الدكتور طارق سالم العكبري، إن "الدولة تعمل على إيجاد حلول عاجلة لمعالجة أزمة رواتب المعلمين، لكن التحديات كبيرة بسبب استمرار الحرب". 

في ظل استمرار الأزمة الإنسانية في اليمن، يبقى مستقبل المعلمين غامضاً. ومع تزايد الضغوط الاقتصادية والمعيشية، يخشى العديد من الخبراء من أن يؤدي استمرار إهمال هذه الفئة إلى انهيار كامل للنظام التعليمي، ما سيكون له عواقب وخيمة على مستقبل الأجيال القادمة.

معلمون بلا رواتب وطلاب بلا مدارس

تؤكد الناشطة الحقوقية اليمنية، أبها عقيل، أن المدرسين يعيشون أوضاعًا صعبة للغاية، إذ يواصلون أداء واجبهم التعليمي رغم معرفتهم أنهم لن يحصلوا على رواتبهم في نهاية الشهر، وهو وضع مستمر منذ أكثر من أربع سنوات دون أي حلول جذرية. وفي حديثها لموقع "جسور بوست"، أوضحت عقيل أن بعض المعلمين لم يتلقوا رواتبهم منذ سنوات، في حين يحصل آخرون على مبالغ زهيدة كل ثلاثة أشهر، ما أجبر بعضهم على الاعتماد على مساعدات الأهالي، الذين يعانون بدورهم أوضاعاً اقتصادية متدهورة.

وأضافت لـ “جسور بوست” أن انهيار التعليم أجبر بعض الأسر على نقل أبنائهم من المدارس الخاصة إلى الحكومية بسبب ارتفاع تكاليف التعليم، إلا أن المدارس الحكومية نفسها تعاني اكتظاظاً شديداً، حيث يصل عدد الطلاب في الصف الواحد إلى أكثر من سبعين طالبًا، ما يجعل العملية التعليمية شبه مستحيلة.

بحسب عقيل، فإن توزيع الرواتب أصبح غير مرتبط بالحضور أو الأداء، بل يخضع لمعايير "مزاجية"، ما زاد من معاناة المدرسين. كما أشارت إلى أن بعض المعلمين الذين حاولوا تطبيق نظام المدرس البديل تعرضوا للتهديد بحرمانهم من أي رواتب قد تُصرف مستقبلاً.

استغلال الأطفال وتسييس التعليم

من جهتها، حذرت الناشطة الحقوقية شروق عبد الجليل من تدهور أخلاقي ومهني خطر في القطاع التعليمي، حيث أجبر الوضع الاقتصادي العديد من المعلمين على البحث عن أعمال إضافية، ما أثر في أدائهم التربوي. وأشارت إلى أن بعض المدارس لجأت إلى متطوعين لسد العجز في الكادر التعليمي، رغم افتقارهم للكفاءة اللازمة، وهو ما انعكس سلبًا على جودة التعليم.

وأوضحت لـ “جسور بوست” أن الأطفال في اليمن يتعرضون لضغوط نفسية هائلة بسبب الحرب، حيث يتم استغلالهم وتوجيههم نحو المشاركة في النزاعات المسلحة، بدلاً من التركيز على دراستهم. وأضافت أن بعض الجهات تشجع الطلاب على ترك مقاعد الدراسة والانخراط في القتال، ما يهدد مستقبلهم بالكامل.

انهيار شامل وغياب الحلول

وتابعت، لم تعد الأزمة التعليمية في اليمن مقتصرة على نقص الموارد، بل أصبحت جزءاً من أزمة أعمق تشمل الفساد والتمييز في صرف الرواتب وغياب الاهتمام الرسمي، ما أدى إلى عزوف الطلاب عن الالتحاق بالكليات التربوية خوفاً من مصير مماثل لمعلميهم.

وأكدت عبد الجليل أن المعلمين لم يعودوا قادرين على تأمين أساسيات حياتهم، حيث يموت بعضهم على أبواب المستشفيات لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف العلاج، في حين يتعرض آخرون للطرد من منازلهم لعجزهم عن دفع الإيجارات.

وختمت بالقول: “الحلول لم تعد بيد المعلمين، فقد خاضوا إضرابات ومسيرات حاشدة للمطالبة بحقوقهم، لكن الحكومة تتجاهل مطالبهم. إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ قطاع التعليم، فإن مستقبل اليمن سيبقى مجهولاً، وسيواجه جيل كامل كارثة تعليمية لا يمكن إصلاحها.”



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية