الإطار المشترك بين لندن ودبلن.. خطوة لإنصاف الضحايا بعد ثلاثة عقود من الاضطرابات
الإطار المشترك بين لندن ودبلن.. خطوة لإنصاف الضحايا بعد ثلاثة عقود من الاضطرابات
أشاد فولكر تورك، المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بالإطار المشترك الجديد الذي توصلت إليه حكومتا المملكة المتحدة وأيرلندا لمعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الصراع في أيرلندا الشمالية، المعروفة بـ"الاضطرابات"، واعتبر تورك هذه الخطوة "فرصة حقيقية" لتحقيق العدالة والمصالحة بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة في 1998.
ثلاثة عقود من العنف والبحث عن السلام
امتدت "الاضطرابات" من أواخر الستينيات حتى عام 1998، مخلفةً أكثر من 3,500 قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى والمتضررين، الصراع كان ذا أبعاد سياسية ودينية، حيث تصادمت القوات النظامية والجماعات شبه العسكرية والمجتمعات المحلية في دائرة عنف مستمرة، ومثلت اتفاقية الجمعة العظيمة مثلت نقطة تحول تاريخية، إذ أرست أسس الحكم الذاتي وتقاسم السلطة وأطلقت مساراً نحو إنهاء العنف، ومع ذلك بقي ملف العدالة للضحايا والناجين معلقاً، وهو ما حاولت معالجته لاحقاً اتفاقية ستورمونت هاوس لعام 2014، التي وضعت إطاراً أولياً للعدالة الانتقالية دون تنفيذ شامل، وفق موقع "ohchr".
قانون 2023 أزمة ثقة جديدة
في سبتمبر 2023، أصدر البرلمان البريطاني قانون "أيرلندا الشمالية.. آثار فترة الاضطرابات والمصالحة"، الذي منح إعفاءً مشروطاً من العقوبة لمن يقرّون بمسؤوليتهم عن انتهاكات حقوق الإنسان خلال الصراع، وألغى إمكانية متابعة قضايا مدنية أو جنائية تتعلق بتلك الفترة، وقد أثار القانون غضب منظمات حقوقية محلية ودولية، التي اعتبرت أنه يقوّض الحق في الحقيقة والعدالة وينتهك التزامات بريطانيا الدولية، لا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وعبّرت عائلات الضحايا عن شعورها بالخذلان، بينما أصدرت منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش بيانات شديدة اللهجة تطالب بإلغائه.
الإطار المشترك.. معالم وآمال
الإطار الجديد بين لندن ودبلن يمثل تراجعاً عن الحصانة المشروطة، ويلغي القيود التي فرضها قانون 2023 على التحقيقات والإجراءات القضائية. أبرز معالمه تشمل: إنشاء لجنة مستقلة تتمتع بصلاحيات التحقيق في الانتهاكات، مع ضمان إمكانية الملاحقة الجنائية، وإلغاء القيود على الدعاوى المدنية، ما يعيد للضحايا وأسرهم الحق في التقاضي، وضمان حقوق الضحايا في التعويضات الفعالة والحصول على الحقيقة، مع إنشاء مجلس إشراف لتعزيز الشفافية وضمان استقلالية اللجنة، إضافة إلى تأسيس مجموعة استشارية رسمية للضحايا والناجين لضمان مشاركتهم في عملية العدالة الانتقالية.
ردود فعل حقوقية ودولية
المفوض السامي للأمم المتحدة أكد أن الإطار يمثل تقدماً نحو "إعادة بناء الثقة" وتعزيز المصالحة، لكنه شدد على ضرورة أن تضع الحكومتان حقوق الضحايا في صميم التنفيذ، ومن جانبها، رحبت منظمات مثل مجلس حقوق الإنسان في جنيف والمفوضية الأوروبية بهذه الخطوة باعتبارها تعيد بعض التوازن بين السيادة الوطنية والالتزامات الدولية، وفي المقابل، طالبت منظمات الضحايا المحلية في بلفاست وديري بأن تُترجم الالتزامات إلى آليات ملموسة، لا مجرد وعود.
التداعيات الإنسانية: العدالة كشرط للمصالحة
إلغاء نظام الحصانة يعيد الأمل لآلاف الأسر التي فقدت أحبّاءها خلال الصراع، وتشير الدراسات الحقوقية إلى أن تجاهل حقوق الضحايا يعمّق الانقسامات الاجتماعية ويعرقل المصالحة، وعلى سبيل المثال، تقرير حديث لمركز العدالة الانتقالية في بلفاست أظهر أن 72% من عائلات الضحايا يعتبرون الحصول على الحقيقة عن ظروف وفاة ذويهم شرطاً أساسياً للسلام المجتمعي، وأن 65% يؤكدون أن التعويضات المادية وحدها لا تكفي من دون محاسبة.
الإطار القانوني الدولي.. الالتزامات والفرص
القانون الدولي يفرض التزامات واضحة على الدول في حالات الانتهاكات الجسيمة، بما في ذلك واجب التحقيق والمقاضاة وعدم منح حصانة غير مبررة، وقد أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في العقدين الماضيين عدة أحكام ضد المملكة المتحدة تتعلق بعمليات قتل خارج القانون خلال فترة "الاضطرابات"، مطالبة بتحقيقات فعالة، والإطار المشترك الجديد يمكن أن يساهم في مواءمة التشريعات البريطانية مع هذه الالتزامات، ويجنب المملكة المتحدة انتقادات مستمرة من آليات الأمم المتحدة.
التحديات أمام التنفيذ
رغم التفاؤل، تواجه الخطوة الجديدة عدة تحديات منها ضرورة توفير موارد مالية وبشرية كافية للجنة التحقيق، وكذلك الحاجة إلى توافق سياسي داخل أيرلندا الشمالية بين مختلف الأطراف المجتمعية، بجانب مخاوف من أن تؤدي الخلافات الحزبية إلى تعطيل المسار مرة أخرى، كما حدث مع اتفاقية ستورمونت هاوس، إضافة إلى التعامل مع آلاف الملفات العالقة منذ عقود، وهو ما يتطلب آليات فعّالة وسريعة.
بعد نحو 27 عاماً من توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة، يبقى ملف العدالة الانتقالية في أيرلندا الشمالية أحد أبرز القضايا غير المحسومة، فالإطار المشترك بين المملكة المتحدة وأيرلندا يمثل خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، إذ يلغي الحصانة، ويعيد الاعتبار للضحايا، ويضع آليات لمحاسبة المسؤولين، لكن نجاحه يتوقف على الإرادة السياسية، والمشاركة الفعالة للضحايا والناجين، والدعم الدولي المستمر، كما قال فولكر تورك: "الوقت حان لاتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة لضمان تحقيق العدالة وتمكين جميع المجتمعات من المصالحة الدائمة".