أبعاد وتداعيات انسحاب القوات الفرنسية من مالي

أبعاد وتداعيات انسحاب القوات الفرنسية من مالي
قوات فرنسية في مالي

اجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الأربعاء 16 فبراير 2020، في باريس مع عدد من المسؤولين الأفارقة والأوروبيين، لبحث الانسحاب الفرنسي من مالي بعد 9 سنوات من التدخل العسكري، عُقد هذا الاجتماع عشية قمة الاتحادين الأوروبي والإفريقي في بروكسل للمصادقة على انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية من مالي ووضع خطة إعادة الانتشار إقليمياً لمواصلة حملة مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.

شارك في هذا الاجتماع قادة النيجر وتشاد وموريتانيا وساحل العاج وغانا وتوغو وبنين، لكن لم يكن هناك حضور لمالي ذاتها، فقد عُلقت عضويتها في هيئات الاتحاد الإفريقي وكذلك بوركينا فاسو بسبب الانقلابات.

ومن الجانب الأوروبي، شارك رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، ووزير الخارجية جوزيب بوريل، وكذلك قادة الدول المشاركة أو التي تدعم مختلف العمليات على الأرض مثل تاكوبا القوات الخاصة أو التدريب العسكري الأوروبي أو بعثة الأمم المتحدة مينوسما.

ويأتي قرار الانسحاب في إطار أزمة حادة مع مالي، التي كان نظامها العسكري قد طرد السفير الفرنسي في وقت سابق، والذي أظهر بوضوح رفضه للوجود العسكري الفرنسي واتهامه بالتواطؤ والدعم للجماعات الإرهابية، بالإضافة إلى اتجاه النظام العسكري في مالي لتوطيد العلاقات مع روسيا المنافس القوي للمصالح الأوروبية في القارة.

الجدير بالذكر، أن هناك انتشارا لحوالي 25 ألف جندي حالياً في منطقة الساحل بينهم حوالي 4600 فرنسي من بينهم 2400 في مالي وحدها في إطار "عملية برخان" بحسب تصريحات الإليزيه.

وبعد انتهاء الاجتماع عُقد مؤتمر صحفي صباح يوم الخميس 17 فبراير 2022، أعلن فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سحب قوات بلاده وشركائها الأوروبيين والكنديين من التي تقاتل الجماعات المتشددة في مالي منذ 2013، على أن تبدأ عملية سحب القوات التي كانت مشاركة في "عملية برخان" خلال الأشهر الأربعة إلى الستة المقبلة.

وقالت باريس وشركاؤها في بيان مشترك، نظرا للعقبات المتعددة التي تضعها السلطات الانتقالية المالية، ترى كندا والدول الأوروبية التي تعمل مع عملية برخان وداخل مجموعة تاكوبا الخاصة، أن الشروط لم تعد متوافرة لمواصلة مشاركتها العسكرية بشكل فعال في مكافحة الإرهاب في مالي، وقررت بالتالي بدء انسحاب منسق من الأراضي المالية لوسائلها العسكرية المخصصة لهذه العمليات.

وكشفت هيئة أركان الجيوش الفرنسية أن نحو 2500 إلى 3 آلاف جندي فرنسي، سيبقون منتشرين في منطقة الساحل بعد انسحابهم من مالي خلال 6 أشهر.

دعونا الآن نبحر في عمق هذه الأزمة ونستطلع أبعادها، وما يمكن أن تؤول إليه الأمور في منطقة غرب إفريقيا بعد هذه الانسحاب.

أولاً، أسباب التدخل والانسحاب الفرنسي من مالي:

التدخل:

بدأت القصة في عام 2013، حين أرسلت فرنسا 5000 جندي إلى مالي بناء على طلب الحكومة في ذلك الوقت، حيث كانت تواجه تمردا مسلحاً، بعد الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي وقتله، فقد عادت ميليشيات الطوارق التي كانت تقاتل معه ضد مواطنيه إلى موطنها الأصلي في مالي، وعزمت على القتال من أجل استقلال شمال البلاد.

واستطاعوا تشكيل تحالفات مع المتطرفين المرتبطين بتنظيم القاعدة ليصبحوا من أقوى شركائها، وسيطروا على شمال مالي وهددوا بالسيطرة على البلاد بأكملها، دفع هذا الأمر بالحكومة الفرنسية للتدخل، فقد كانت مالي مستعمرة فرنسية حتى عام 1960، وعللت الحكومة الفرنسية التدخل بأنها تريد حماية سكان مالي والمواطنين الفرنسيين الذين يعيشون هناك والذين يبلغ عددهم 6000 مواطن.

وقد تمركز 2400 من هذه القوات في شمال مالي، بينما استخدم الباقون الطائرات بدون طيار والمروحيات لتعقب الخلايا المتطرفة التي تعمل في منطقة الساحل، بالإضافة إلى 14000 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي تعمل جنبا إلى جنب مع القوات العسكرية المحلية، وتقوم بدوريات عبر صحراء الساحل.

الانسحاب:

في بادئ الأمر لاقى التدخل الفرنسي الترحاب عند وصوله إلى مالي منذ 9 أعوام، إلا أن العلاقات بين باماكو وباريس توترت فيما بعد، فقد زاد عدد الهجمات الإرهابية في البلاد بشكل مطرد ولم يقل بالرغم من وجود قوات فرنسية، وكذلك زاد عدد الماليين الذين انضموا إلى الجماعات المتمردة.

وخلال السنوات التسع الماضية، انتشر وباء المتطرفين إلى دول الجوار الإقليمي مثل بوركينا فاسو والنيجر، فقد شن المتمردون غارات عديدة في المنطقة انطلاقاً من قواعدهم في الصحراء الكبرى.

الأمر الذي جعل العديد من السكان المحليين يشعرون، بأن وجود فرنسا، كقوة عسكرية من القوى الكبرى غير مُجدٍ، حيث يُفترض أن تكون قادرة على حل مشكلة الإرهاب لكنها لم تفعل، لذا عليها المغادرة فهي لم تستطع تحقيق هذا الهدف على مدار 9 أعوام، دفع هذا الفشل الفرنسي في حل الأزمة البعض لوصف وجودها في مالي مرة أخرى بالاحتلال الجديد.

وبالإضافة إلى الأسباب السابقة لعب التوتر بين الحكومة الفرنسية والمجلس العسكري في مالي دوراً كبيرا في الانسحاب، فقد بدأ هذا التوتر بعد انقلاب أغسطس 2020، والمرة الثانية في مايو2021، وهو الانقلاب الثاني خلال 9 أشهر الأمر الذي رفضته باريس، وأدى ذلك إلى تدهور العلاقات ووصولها إلى أدنى مستوياتها.

عزز هذا التدهور تراجع المجلس العسكري في مالي عن إجراء انتخابات ديمقراطية التي كان مقرر لها أن تعقد في فبراير من هذا العام، وأشار المجلس إلى أنه سيظل في السلطة حتى عام 2025، الأمر الذي دفع جان إيف لورديان وزير الخارجية الفرنسي، لوصف المجلس العسكري الحاكم بعديم الشرعية، وبأنه خارج السيطرة، بدورها وصفت مالي هذه التصريحات بالعدائية تجاهها، فقامت بطرد السفير الفرنسي رداً عليها.

دفعت كل تلك الأمور الرئيس ماكرون إلى القول: "لا يمكننا أن نبقى منخرطين عسكريا إلى جانب سلطات الأمر الواقع (يقصد النظام العسكري) التي لا نشاركها في إستراتيجيتها وأهدافها الخفية"، كما رفضت فرنسا التفاوض على اتفاق سلام مع الجماعات المتطرفة فيما سبق.

وبالنسبة لي كباحث في الشؤون الإفريقية كل ما سبق في كومة وما يلي في كومة أخرى، حيث إن أهم أسباب الانسحاب، هو غضب فرنسا والأوروبيين من قرار المجلس العسكري في مالي بدعوة مقاتلين من شركة فاغنر الروسية للمساعدة في محاربة المتطرفين والمتمردين شمالي البلاد، حيث قالت وزيرة القوات المسلحة الفرنسية، "فلورنس بارلي" معلقة على هذا الأمر "لن نتمكن من التعايش مع المرتزقة".

ثانياً: التداعيات المحتملة جراء هذا الانسحاب

قد يؤثر هذا الانسحاب الفرنسي بشكل قوي في منطقة غرب إفريقيا والساحل المضطربة بالأساس، والتي تشهد حرباً عنيفة مع المتمردين والإرهابيين طوال عقد من الزمان، عطفاً على وباء الانقلابات الذي أصاب 5 من دولها تقريباً والتي منها مالي، لذلك قد يشكل الانسحاب ما يلي:

1)     فراغاً عسكرياً

إن انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية من مالي سيخلق فراغا، يجعل جيوش غرب إفريقيا على الخطوط الأمامية للمواجهة ضد الجماعات المسلحة في منطقة الساحل، الأمر الذي يجعلهم في حاجة إلى شراء أسلحة، وتوفير قدر أكبر من التدريبات والاحترافية لعناصر الجيوش، وهذا قد يعني تواجداً روسياً أكبر، فهي من تبيع الأسلحة بسعر رخيص وفي نفس الوقت ذات كفاءة عالية.

فكما أشار الرئيس الإيفواري الحسن واتارا، أن "الجيوش الوطنية يجب أن تحل المشاكل على أراضينا وهذه هي فلسفتنا، وأوضح أن مكافحة الإرهاب أمر أساسي بالنسبة لمالي وبوركينافاسو والنيجر والبلدان الساحلية، لذلك سنضطر إلى زيادة قواتنا الدفاعية، وتعزيز حماية حدودنا، وسنتخذ كل الإجراءات الممكنة، فبدون أمن لن تكون هناك تنمية".

2)     تنامي إمكانية تمدد نشاط الجماعات الإرهابية في المنطقة

إن الانسحاب الفرنسي من مالي في مقابل التخبط الذي يعاني منه النظام العسكري هناك، قد يمنح الجماعات الإرهابية فرصة لتمديد إطار نشاطها، فقد تسعى هذه الجماعات إلى الاستحواذ على مناطق جغرافيا أوسع مستغلة هذا الانسحاب، بغرض تعزيز نفوذها وسيطرتها في المنطقة، وقد نشهد صراعاً بين الجماعات الإرهابية نفسها التي ستسعى لاستغلال هذا الانسحاب في توسيع نفوذها في المنطقة.

ويعني توسيع نفوذ ومناطق سيطرة الجماعات الإرهابية، مزيدا من القوة والموارد التي قد تمكنها من الانتشار في منطقة غرب إفريقيا والساحل بشكل أكبر وأسرع، عطفاً على امتلاك العديد من تلك الجماعات الإرهابية شبكة من العلاقات في هذه المنطقة بينهم وبين بعضهم، الأمر الذي سيجعل من تمددهم وتوسيع نطاق عملياتهم في المنطقة شيئا سهلا.

3)     تنامي وتيرة انتهاكات حقوق الإنسان

قد يضع هذا الانسحاب الوضع الإنساني في مالي في وضع خطير، حيث ستذهب السلطات العسكرية في مالي في طريقها نحو قمع معارضيها واستخدام جميع الوسائل الممكنة للحفاظ على مكتسباتها التي اكتسبتها بعد الانقلاب، فقد يزيد هذا الانسحاب من وتيرة الاختفاءات القسرية والعنف ضد المعتقلين والمشتبه بانضمامهم للجماعات الإرهابية، وعلى الجهة الأخرى كما ذكرنا في السابق سيسمح هذا الانسحاب للجماعات الإرهابية بالتمدد والسيطرة على مناطق أوسع، ويعني هذا عنفاً أكبر ضد المدنيين وانتهاكات أكثر لحقوق الإنسان، لا سيما المرأة والأطفال اللذان يقعان ضحية لمثل هذه الجماعات ويمارس عليهم كل وسائل العنف والاستغلال الجسدي والجنسي.

4)     تمدد الوجود الروسي في المنطقة

منذ وقوع الانقلاب الثاني في أغسطس 2020 في مالي، ظهر جلياً الدعم الروسي للمجلس العسكري، وهو ما يثير القلق لدى باريس كما ذكرنا في فقرة أسباب الانسحاب، فمنذ أن انقلب العقيد "أسيمي جويتا" على النظام تدعم موسكو جميع قرارات مجلسه، آخر هذا الدعم كان الإعلان عن تأييدها قرارات المجلس العسكري الحاكم في مالي حول تأجيل الانتخابات الرئاسية في البلاد إلى عام 2026.

ولنعد مرة أخرى لتصريحات الرئيس الإيفواري "الحسن واتارا" حول اضطرار دول المنطقة إلى زيادة قواتها الدفاعية، وتعزيز حماية حدودهم، من خلال كل الإجراءات الممكنة، وتعني جملة زيادة القدرة التدريب والتسليح، ومن أفضل من روسيا في هذا الشأن، لديها أسلحة متطورة بأسعار رخيصة نسبياً وإمكانية التدريب ورفع الكفاءة، بالإضافة إلى عناصر شركة فاجنر في حال لم ترغب روسيا أو إحدى الدول بالتعاون بشكل مباشر.

وقد يحدث ذلك مدفوعاً بما حققه الجيش المالي من انتصارات خلال الفترة الأخيرة ضد العناصر الإرهابية، بفضل الأسلحة الروسية التي حصل عليها لصد هجمات التنظيمات الإرهابية التي تتمركز في شمال البلاد ووسطها، الأمر الذي قد يعطي مؤشرا وانطباعاً قوياً لدول المنطقة حول جدوى التدخل الروسي ومدى قوة أسلحتها، فقد يجعلهم ذلك يتجهون للتعاون مع روسيا، حتى تساعدهم في أزمتهم ضد الإرهاب بعد أن تخلت عنهم فرنسا.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية