«غياب العدالة الدولية».. جراح غزة تنزف تحت وطأة الحرب
«غياب العدالة الدولية».. جراح غزة تنزف تحت وطأة الحرب
منذ السابع من أكتوبر الماضي، شهد قطاع غزة تصعيدًا غير مسبوق في الهجمات العسكرية الإسرائيلية، تاركًا وراءه دمارًا واسع النطاق وآلاف الضحايا من المدنيين.
جاء هذا التصعيد ردًا على هجوم مفاجئ شنته حماس داخل إسرائيل، ولكن التداعيات السريعة وشدة الضربات الإسرائيلية ألقت بظلالها الكارثية على حياة المدنيين في غزة.
ورغم تصريحات إسرائيل بأن هجماتها تستهدف البنية التحتية لحماس، فإن الحقائق على الأرض تكشف أن المدنيين العزل هم الذين يدفعون الثمن الأكبر لهذه العمليات.
وتكشف التقارير الحقوقية والإحصائيات الدولية حجم الكارثة الإنسانية، فوفقًا للأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى المدنيين في غزة 15,000 شخص بحلول نهاية ديسمبر 2023، بينهم أكثر من 6,000 طفل وامرأة.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة في بيان أن عدد القتلى في القطاع منذ بداية الحرب ارتفع إلى أكثر من 41 ألف شخص، فيما بلغت حصيلة المصابين أكثر من 95 ألف جريح.
المرافق الصحية خارج الخدمة
وأفاد الصليب الأحمر الدولي بأن أكثر من نصف المرافق الصحية في القطاع خرجت عن الخدمة بسبب القصف المكثف، مما أدى إلى شلل كامل في القدرة على تقديم الرعاية الطبية اللازمة.
وتفاقمت الأوضاع المعيشية بشكل خطير؛ إذ تشير التقارير إلى أن 90% من سكان غزة لا يتمكنون من الوصول إلى مياه صالحة للشرب، بينما يعاني القطاع من انقطاع شبه كامل للكهرباء لأسابيع متواصلة، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية على جميع المستويات.
وتأتي هذه الأرقام إلى جانب تدمير ممنهج للمرافق العامة مثل المدارس والمستشفيات، منظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) وثقت نزوح أكثر من 200,000 شخص داخل قطاع غزة بعد أن فقدوا منازلهم بسبب القصف، وفي حين تدعي إسرائيل أن هذه الهجمات ضرورية لدحر حماس، فإن الواقع يشير إلى أن القصف العشوائي يساهم في تأجيج الغضب الشعبي ويزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي.
في المقابل، لم تكن إسرائيل بمنأى عن الآثار المدمرة لهذا الصراع، الهجمات الصاروخية التي أطلقتها حماس، والتي تجاوزت الآلاف، تسببت في مقتل أكثر من 1,400 إسرائيلي، ومع أن هذه الهجمات جاءت مفاجئة من حيث كثافتها وتوقيتها، فإن الرد الإسرائيلي الذي جاء بعد ذلك كان فتاكًا، خصوصًا على سكان غزة المدنيين.
انتهاكات جسيمة للقانون الدولي
اتُهمت إسرائيل بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، حيث يُفترض أن يتم تفادي استهداف المدنيين والمرافق الحيوية، وهو ما لم يحدث على أرض الواقع بحسب "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي إنترناشونال".
إسرائيل لم تلتزم بالقواعد الدولية المتعلقة بتجنب استهداف المدنيين، فالتقارير تشير إلى تدمير أكثر من 50 مدرسة و25 مستشفى في غضون الأسابيع الأولى من الحملة العسكرية.
وبموجب القانون الدولي، وخاصة اتفاقيات جنيف، يُعد استهداف المدنيين والبنى التحتية الحيوية جريمة حرب، لكن إسرائيل لم تظهر أي مؤشرات على التراجع عن هذه العمليات، هذا التجاهل للقوانين الدولية يمثل انتهاكًا صارخًا ويثير تساؤلات حقيقية حول التزام إسرائيل بالمعايير الدولية الإنسانية.
إلى جانب القصف، فإن الحصار الإسرائيلي الذي يطبق على قطاع غزة منذ سنوات بات أكثر صرامة خلال هذه الأحداث، إسرائيل منعت دخول المساعدات الإنسانية وقيدت بشدة تدفق الغذاء والدواء، مما جعل الأوضاع الصحية والمعيشية في القطاع أسوأ من أي وقت مضى.
انهيار مستشفيات غزة
وأكدت منظمة الصحة العالمية أن مستشفيات غزة وصلت إلى حافة الانهيار بسبب نقص المعدات الطبية والأدوية، ما أدى إلى زيادة معدلات الوفيات بين المصابين، وفي الوقت نفسه، تشير تقارير الإغاثة الدولية إلى أن سكان غزة يعيشون في أوضاع تشبه المجاعة بسبب نقص الإمدادات الغذائية الأساسية.
ورغم الدعوات المتكررة من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لوقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية، تواصل إسرائيل تجاهل هذه النداءات، هذا الوضع أدى إلى تعقيد الأوضاع بشكل أكبر، خاصة مع تفاقم مشاعر الغضب والكراهية في أوساط السكان الفلسطينيين.
ويؤكد الخبراء الدوليون في القانون الإنساني أن الحصار الإسرائيلي على غزة يعد شكلًا من أشكال العقاب الجماعي، وهو ما يعتبر جريمة وفق القانون الدولي، إلا أن غياب المساءلة الدولية الفعالة يجعل إسرائيل تمضي في هذه السياسات دون رادع.
على الصعيد النفسي، يكشف تقرير حديث للصليب الأحمر أن أكثر من 70% من أطفال غزة يعانون من اضطرابات نفسية نتيجة للصدمة التي عاشوها جراء القصف وفقدان أحبائهم.
هذا الجيل من الأطفال يعاني من تبعات عميقة للحرب، تبعات قد تكون طويلة الأمد، ما يشير إلى أزمة صحية ونفسية تمتد لأجيال قادمة، وهذه الأزمة الإنسانية تكشف مدى فشل المجتمع الدولي في حماية حقوق المدنيين وضمان سلامتهم، وتظهر أن العواقب النفسية لهذه الحرب قد تكون أكثر تدميرًا من الدمار المادي.
حالة من الهلع بين السكان
في إسرائيل، الوضع النفسي متوتر أيضًا، فقد أدت الهجمات الصاروخية التي تستهدف المدن الإسرائيلية إلى حالة من الهلع بين السكان، مما أجبر الملايين على الاحتماء في الملاجئ بشكل يومي، وتوقفت الحياة الطبيعية بشكل شبه كامل في العديد من المناطق القريبة من الحدود مع غزة، وتحولت المدن إلى مناطق أشبه بالحرب، حيث يعيش السكان في خوف دائم من الهجمات الصاروخية.
ورغم ذلك، تبقى إسرائيل في موقف متفوق عسكريًا وسياسيًا، فالدعم الأمريكي المستمر، الذي يتجسد في المساعدات العسكرية والمالية، يضمن لإسرائيل تفوقًا عسكريًا ساحقًا، على سبيل المثال، وفقًا لبيانات الكونغرس الأمريكي، تتلقى إسرائيل حوالي 3.8 مليار دولار سنويًا كمساعدات عسكرية، ما يمنحها القدرة على مواصلة عملياتها العسكرية بلا رادع.
وهذا الدعم الدولي، خصوصًا من الولايات المتحدة، يُعقّد فرص التوصل إلى حل سلمي للصراع، ويجعل إمكانية تحقيق العدالة للفلسطينيين أكثر بعدًا.
والأكثر إثارة للقلق هو الصمت الدولي المستمر تجاه هذه الانتهاكات، فالدول الأوروبية، التي تتبنى خطابًا عن حقوق الإنسان، تبدو مترددة في توجيه انتقادات صريحة لإسرائيل أو اتخاذ إجراءات عملية، خوفًا من تأثير ذلك على علاقاتها الاستراتيجية مع تل أبيب أو مواجهة ردود فعل أمريكية سلبية، وهذا التواطؤ الدولي إلى جانب ازدواجية المعايير في التعامل مع حقوق الفلسطينيين، يعزز الشعور بالظلم ويزيد من تعقيد الوضع على الأرض.
ويعكس الصراع بعد السابع من أكتوبر واقعًا مريرًا من الدمار والمعاناة المتواصلة. وبينما تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية تحت مبرر الدفاع عن أمنها، تتدهور الأوضاع الإنسانية في غزة بشكل غير مسبوق، ويزداد عدد الضحايا المدنيين يومًا بعد يوم.
حلقة مفرغة من العنف
الحلقة المفرغة من العنف والانتقام تتغذى على دعم دولي غير متوازن وتحالفات سياسية تسهم في استمرار الصراع بدلًا من حله. وبات واضحًا أن غياب الإرادة الدولية للضغط على إسرائيل من أجل إنهاء هذه الانتهاكات قد يؤدي إلى استمرار هذه المأساة الإنسانية لعقود قادمة.
أزمة إنسانية متعددة
وقال عضو المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان “شاهد” علاء موسى، إن أبعاد الأزمة الإنسانية في غزة متعددة، حيث يمكن تلخيص التأثيرات الرئيسية في عدة نقاط رئيسية.. أولاً، يمثل النزوح نقطة محورية، حيث تتقلص المساحات الآمنة للسكان بشكل متزايد منذ بداية الهجمات في 7 أكتوبر، ووفقًا للتقارير، فإن المساحة الآمنة المتاحة للسكن في غزة لا تتجاوز 9.6% من إجمالي المساحة، وهو ما يبرز الوضع المأساوي الذي يعيشه النازحون.
وتابع موسى، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، عند التطرق إلى الوضع الصحي، نجد أن المستشفيات تضررت بشكل كبير نتيجة للاعتداءات، حيث تعرضت العديد منها للتدمير الكامل أو تم اقتحامها أكثر من مرة، مثل مستشفى الشفاء والمستشفى المعمداني. بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام الطاقم الطبي كدروع بشرية، ما زاد من صعوبة تقديم الرعاية الصحية اللازمة، وقد وثقت تقارير عديدة المجازر التي وقعت داخل المستشفيات، بالإضافة إلى المقابر الجماعية التي تم اكتشافها بعد انسحاب القوات العسكرية.
واسترسل موسى المقيم في غزة قائلا: نحن هنا نعاني من أزمة حادة، فالمياه المتاحة للسكان ضئيلة جدًا، ما يساهم في تفشي الأمراض، خاصة بين الأطفال وكبار السن، وتفتقر المجتمعات إلى مستلزمات النظافة الشخصية، ما يزيد من انتشار الأمراض الجلدية والأمراض المعدية مثل التهاب الكبد الوبائي، وتمثل الكثافة السكانية تحديًا إضافيًا، حيث يضطر حوالي 1.8 مليون شخص للعيش في مساحة ضيقة جدًا، ما يزيد من حدة الأزمة الإنسانية، وأيضا عمليات النزوح المتكررة تزيد من الضغط على الموارد المتاحة، ما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا.
وقال إن قطاع التعليم أيضًا يعاني من تداعيات النزاع، حيث بدأ العام الدراسي في فلسطين، لكن غزة تشهد للعام الثاني على التوالي توقف العملية التعليمية، وهذا الوضع يؤثر بشكل كبير على مستقبل الأطفال والشباب في المنطقة، بجانب ذلك، يجب الإشارة إلى التأثيرات الاقتصادية على الجانب الإسرائيلي، فقد شهدت المناطق الشمالية من فلسطين، على الحدود مع لبنان، توقيفًا عامًا للدراسة ونزوحًا من قِبل السكان، ما أثر سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي، كما أن استدعاء قوات الاحتياط لتنفيذ العمليات العسكرية في غزة ومناطق أخرى يساهم في تعقيد الأوضاع الاقتصادية.
وأتم، الأبعاد الإنسانية للأزمة في غزة تتطلب اهتمامًا دوليًا عاجلًا، حيث يجب على المجتمع الدولي التحرك لحماية حقوق الإنسان وضمان توفير المساعدة اللازمة للسكان المتضررين.
مبادئ القانون الدولي الإنساني
وفي السياق القانوني والحقوقي، قال خبير القانون الدولي، نبيل حلمي، إن الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس، وما تلاه من عمليات عسكرية مكثفة على قطاع غزة، يمثل انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان، وخاصة في ما يتعلق بحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة، ويتضح أن العمليات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة لم تلتزم بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، وأهمها مبدأ التمييز ومبدأ التناسب، وهذان المبدآن، المنصوص عليهما في اتفاقيات جنيف، يهدفان إلى ضمان حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية في أوقات الحرب، إلا أن ما نشهده في غزة يعكس تجاهلًا واضحًا لهذه المعايير الدولية.
وتابع في تصريحاته لـ"جسور بوست"، إسرائيل من خلال حملتها العسكرية الواسعة، تستهدف ما تدعي أنها بنى تحتية عسكرية لحماس، ولكن الأرقام والشهادات الميدانية تكشف أن الجزء الأكبر من الضحايا هم من المدنيين، وآلاف القتلى هم من الأطفال والنساء، وتدمير المستشفيات والمدارس، يمثلان انتهاكًا واضحًا لمبدأ التمييز الذي يوجب على الأطراف المتحاربة التفريق بين الأهداف العسكرية والمدنية، وبحسب التقارير الصادرة عن منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي إنترناشونال"، فإن إسرائيل قامت باستهداف مناطق مكتظة بالسكان دون اتخاذ التدابير اللازمة لتقليل الأضرار المدنية، وهو ما يتناقض مع الالتزامات القانونية التي تفرض على الدول احترام وحماية المدنيين أثناء النزاعات.
وذكر خبير القانون الدولي، يتعارض استخدام إسرائيل للقوة المفرطة مع مبدأ التناسب، الذي ينص على ضرورة أن تكون الهجمات العسكرية متناسبة مع الهدف العسكري المراد تحقيقه، ومن الواضح أن حجم القوة المستخدمة، وعدد الضحايا المدنيين، وحجم الدمار المادي لا يتناسب مع الأهداف العسكرية المعلنة، وهذا الاستخدام المفرط للقوة، دون اعتبار لحياة المدنيين، يُصنَّف في بعض الأحيان كجريمة حرب، ويثير تساؤلات حول مدى التزام إسرائيل بالقانون الدولي الإنساني.
وشدد على أن الحصار المفروض على غزة يمثل بدوره انتهاكًا إضافيًا لحقوق الإنسان، فالحصار، الذي يتسبب في نقص حاد في الغذاء والدواء والوقود، يعاقب كل سكان القطاع، وهو شكل من أشكال العقاب الجماعي المحظور بموجب القانون الدولي، وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن هذا الحصار أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية بشكل غير مسبوق، حيث يعاني أكثر من 90% من سكان غزة من نقص حاد في المياه الصالحة للشرب، كما أن النظام الصحي في حالة انهيار كامل.
واسترسل، من جانب آخر، فإن قصف المستشفيات والمدارس، التي تُعتبر أماكن محمية بموجب القانون الدولي، يشكل خرقًا واضحًا لاتفاقيات جنيف، فهذه الأماكن، التي يلجأ إليها المدنيون طلبًا للأمان، تتحول إلى أهداف عسكرية في الحرب، ما يزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية ويعرقل تقديم المساعدات الطبية الضرورية وكل هذه الانتهاكات تشير إلى غياب المحاسبة والردع الدولي تجاه إسرائيل، وهو ما يعزز من استمرار هذا النوع من الانتهاكات دون خوف من العواقب.
وأتم، يجب أن تكون هناك إرادة دولية أقوى لفرض معايير حقوق الإنسان على جميع أطراف النزاع، بما في ذلك إسرائيل. وإن استمرار انتهاك حقوق المدنيين في غزة يشكل خطرًا ليس فقط على الفلسطينيين، بل على النظام الدولي لحقوق الإنسان ككل، فالمجتمع الدولي مطالب بتفعيل آليات المحاسبة الدولية لضمان عدم الإفلات من العقاب، والعمل على وقف الانتهاكات المستمرة التي يدفع ثمنها المدنيون الأبرياء في غزة.