بعد 16 عامًا من الإنكار.. كيف تواطأت شركات عسكرية في تعذيب عراقيين بسجن أبو غريب؟
بعد 16 عامًا من الإنكار.. كيف تواطأت شركات عسكرية في تعذيب عراقيين بسجن أبو غريب؟
في خطوة قانونية نادرة تحمل أبعاداً أخلاقية وقانونية واسعة، أصدرت هيئة محلفين فيدرالية في الولايات المتحدة حكماً بإلزام شركة CACI، المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأمريكية، بدفع 42 مليون دولار لثلاثة عراقيين تعرضوا للتعذيب في سجن أبو غريب خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق.
هذه الشركة، التي وفرت المحققين في المنشأة سيئة السمعة عامي 2003 و2004، باتت ملزمة بتعويض كل من سهيل الشمري، وأسعد الزوبعي، وصلاح العجيلي بـ14 مليون دولار لكل فرد، بعدما ثبت تورطها في تهيئة الظروف التي ساعدت على تنفيذ الانتهاكات، رغم نفيها المستمر لمسؤوليتها طوال 16 عاماً من التقاضي.
محاسبة المتعاقدين العسكريين
ويُعد الحكم، الذي صدر في أكتوبر 2024، نقطة تحول حاسمة في مسار محاسبة المتعاقدين العسكريين عن أفعالهم خارج الحدود الأمريكية، حيث اعتمد على سلسلة من الأدلة والشهادات التي قدمها الدفاع، بما في ذلك تحقيقات حكومية وشهادات موظفين عسكريين سابقين، تؤكد أن موظفي الشركة المتعاقدة لعبوا دوراً في توجيه أفراد الشرطة العسكرية لاستخدام وسائل عنيفة تحت ذريعة "تليين" المعتقلين قبل استجوابهم، ما أدى إلى الانتهاكات البشعة التي كشفت عنها الصور الشهيرة التي سُربت عام 2004.
هذه الصور، التي نشرتها وسائل إعلام دولية مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، أظهرت معتقلين في أوضاع قاسية، بعضهم عراة، مكبلين أو مكدسين في أكوام، مع جنود يبتسمون أمام الكاميرا في مشاهد صادمة أثارت ضجة عالمية وأدت إلى إدانة واسعة النطاق للسياسات الأمريكية في السجون العسكرية.
وقد كان لسجن أبو غريب، الذي يقع على بُعد حوالي 32 كيلومتراً غرب العاصمة بغداد، دور مهم في ذاكرة الحرب العراقية-الأمريكية، حيث احتُجز آلاف العراقيين في ظروف قاسية، واتُهمت قوات الاحتلال بارتكاب انتهاكات شنيعة بحق المعتقلين. وأفاد تقرير "هيومن رايتس ووتش" بأن حوالي 60% من المحتجزين في السجن خلال فترة الاحتلال لم يكن لهم علاقة بالجماعات المسلحة.
وأشارت تحقيقات لاحقة إلى أن مقاولين مدنيين من شركات مثل CACI و"بلاك ووتر" أشرفوا على جوانب عدة من عمليات الاستجواب في السجن، مستخدمين وسائل اعتُبرت غير قانونية بحسب المعايير الدولية، وقد أظهرت وثائق المحكمة أن موظفي CACI كانوا يوجهون ويدربون أفراد الشرطة العسكرية الأمريكية، الذين استخدموا أساليب غير إنسانية تشمل العنف النفسي والجسدي، ما أدى إلى مشاهد مهينة للكرامة الإنسانية.
العدالة الدولية
من الناحية القانونية، يُعد هذا الحكم إشارة قوية إلى إمكانات العدالة الدولية، ورغم أن القوانين الأمريكية غالباً ما توفر حماية واسعة للمتعاقدين مع الجيش، فإن هذا القرار يفتح الباب أمام مقاضاة المتعاقدين المدنيين في المحاكم الوطنية، حتى عن الجرائم التي تحدث خارج الولايات المتحدة.
واستند الحكم إلى "قانون جرائم التعذيب" الصادر عام 1994، الذي يسمح لغير الأمريكيين برفع دعاوى قضائية داخل الولايات المتحدة إذا تعرضوا لانتهاكات جسيمة على يد أمريكيين خارج الأراضي الأمريكية. وأصدرت "مؤسسة الحقوق الدستورية"، التي مثلت المدعين في القضية، بيانًا أكدت فيه أن "العدالة قد تأخرت لكنها تحققت أخيرًا، وأن الحكم يشكل تحذيراً لأي شركة تنتهك حقوق الإنسان".
وتشير الإحصاءات إلى أن عقود المتعاقدين العسكريين مع الحكومة الأمريكية شهدت ازدهاراً هائلاً خلال العقدين الأخيرين، إذ بلغت ميزانية العقود العسكرية في العراق 138 مليار دولار بين عامي 2003 و2011، وفقاً لبيانات وزارة الدفاع الأمريكية. وخلال هذه الفترة، اعتمد الجيش الأمريكي على آلاف الموظفين المدنيين من شركات متعددة الجنسيات، ما خلق سوقًا كبيرًا للربح على حساب الالتزامات الأخلاقية. ومن بين هذه الشركات كانت CACI، التي لا تزال تعمل كمتعاقدة رئيسية مع البنتاغون في عدة مجالات رغم صدور الحكم ضدها، ما يثير تساؤلات ملحة حول مستوى الرقابة المفروضة على الشركات المتعاقدة ودورها في النزاعات المسلحة.
ويرى العديد من الخبراء الحقوقيين أن الحكم يعكس إرادة قانونية لمحاسبة المتعاقدين، لكنه يُظهر أيضاً تحديات كبيرة في سبيل تحقيق العدالة الكاملة، خاصةً أن كثيراً من ضحايا انتهاكات أبو غريب وآلاف المعتقلين الآخرين لم يحصلوا على تعويضات أو حتى اعتذارات رسمية. ووفق تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في 2023، فإن أكثر من 75% من حالات الانتهاك التي ارتكبتها الشركات المتعاقدة في العراق لم تصل إلى القضاء، وأن معظمها انتهى بتسويات خارج المحاكم.
قصة أبو غريب
كانت فضيحة سجن أبو غريب في العراق من أبشع فصول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلال الحرب الأمريكية على العراق، وشكلت صدمة في الوعي العالمي حيال ما حدث خلف أسوار هذا السجن.
في عامي 2003 و2004، أظهرت صور مسربة تعرض المعتقلين العراقيين لأبشع صنوف التعذيب والإهانة، حيث ظهر السجناء عراة، مقيدين، مكدسين فوق بعضهم البعض، ومهددين بالكلاب أو موصولين بأسلاك كهربائية.
وقد أظهرت التحقيقات الأمريكية، وتحديداً في تقرير اللواء أنطونيو تاجوبا، أن سلسلة من الانتهاكات الجسدية والنفسية كانت تحدث تحت إشراف الجنود الأمريكيين، ومعهم متعاقدون مدنيون من شركات مثل "CACI"، التي كانت تقدم خدمات التحقيق والاستجواب بعقود مباشرة مع وزارة الدفاع الأمريكية. ورغم أن هذا الدور أُسند إلى المتعاقدين العسكريين كدور استشاري، فإن التحقيقات أفادت بأن بعض المتعاقدين المدنيين كانوا يوجهون أفراد الجيش لاستخدام أساليب "لتليين" المعتقلين، ما أدى إلى مناخ من الوحشية والعنف داخل السجن.
خطوة نحو العدالة
أفاد الخبير الحقوقي محمود الحمداني بأن الحكم بتعويض ضحايا التعذيب في سجن أبو غريب يمثل خطوة هامة على طريق محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون العراقيون، ورغم أهمية التعويض المالي، فإنه لا يرقى لمعالجة الآثار النفسية والجسدية العميقة التي لحقت بالضحايا، حيث لا يمكن للتعويض المالي وحده أن يعوّض عن سنوات الألم والمعاناة التي عاناها هؤلاء المعتقلون بعد الإفراج عنهم.
آثار التجربة المريرة
أوضح الحمداني في تصريح لـ"جسور بوست" أن تعويضات أبو غريب رغم قيمتها، لا تزال عاجزة عن محو آثار التعذيب الذي خلّف آثارًا نفسية وجسدية عميقة، ووصف التعذيب في السجن بأنه أكثر من مجرد انتهاك لحقوق الإنسان، بل جريمة ضد الإنسانية. وشدد على أن تحقيق العدالة الانتقالية يتطلب حلولًا شاملة تضمن كرامة الضحايا واعترافًا بمعاناتهم.
تطوير آليات المساءلة
من الناحية القانونية، أشار الحمداني إلى أن الحكم الأخير يُعد سابقة في محاكمة الشركات الخاصة. ومع ذلك، أكد ضرورة تعزيز آليات المساءلة لضمان عدم تكرار الانتهاكات، موضحًا أن القضاء على الإفلات من العقاب يتطلب محاسبة شاملة لجميع الأطراف المتورطة، سواء كانت حكومات أو شركات خاصة، لضمان تحقيق العدالة الكاملة.
من جانبه، أكد الخبير القانوني فهمي قناوي أن التعويض المالي الذي صدر في قضية سجن أبو غريب لا يتماشى مع متطلبات القانون الدولي، وتحديدًا اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1987 وتشدد على ضرورة تقديم تعويضات شاملة لضحايا التعذيب، تشمل الأضرار المادية والمعنوية، بالإضافة إلى العلاج النفسي والدعم الاجتماعي لإعادة دمج الضحايا في المجتمع.
وأوضح قناوي في تصريح لـ"جسور بوست" أن التعويض المالي الذي حصل عليه الضحايا يبقى محدودًا في نطاقه ولا يعالج بشكل كامل الآثار النفسية والاجتماعية المترتبة على التعذيب.
تعويض غير كافٍ
وأكد قناوي أن المبدأ الدولي للتعويضات الشاملة يتطلب أكثر من مجرد تعويضات مالية، حيث تنص المادة 14 من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب على أن الدول يجب أن توفر "تعويضًا عادلًا وملائمًا" يشمل الرعاية الطبية والعلاج النفسي. كما طرح تساؤلات حول مدى تطبيق هذا المبدأ في التعويضات المقدمة لضحايا سجن أبو غريب.
محاسبة المتورطين
أشار قناوي أيضًا إلى قانون جرائم التعذيب الأمريكي الصادر في عام 1994، الذي سمح للضحايا غير الأمريكيين برفع دعاوى ضد الأفراد أو الكيانات الأمريكية التي ارتكبت جرائم تعذيب في الخارج، وأضاف أن هذا القانون كان له دور محوري في تمكين الضحايا من الحصول على تعويضات مالية، ما يعكس تطورًا في دور القضاء الأمريكي في محاسبة الأطراف المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان.
التحديات القانونية
رغم هذه الخطوات القانونية، لفت قناوي إلى أن محاسبة الشركات الخاصة المتعاقدة مع الحكومات في النزاعات المسلحة تظل قضية معقدة، موضحا أن هذه الشركات غالبًا ما تكون محمية بموجب عقود سرية، ما يخلق ثغرات في المساءلة، وفي حالة سجن أبو غريب، لعبت شركات مثل CACI دورًا استشاريًا في تدريب الجنود على أساليب التحقيق، ما جعلها شريكًا غير مباشر في الانتهاكات التي وقعت.
تشديد المساءلة الدولية
اختتم قناوي بالقول إن القانون الدولي يجب أن يضمن محاسبة كل الأطراف المتورطة في الانتهاكات، سواء كانوا موظفين حكوميين أو متعاقدين مع الحكومات، مشددًا على ضرورة تطوير تشريعات دولية لمواجهة الفجوات القانونية وضمان تحقيق العدالة الشاملة لضحايا التعذيب.