ترحيل المهاجرين إلى الصحراء التونسية.. استراتيجية أمنية أم انتهاك صارخ لحقوق الإنسان؟

ترحيل المهاجرين إلى الصحراء التونسية.. استراتيجية أمنية أم انتهاك صارخ لحقوق الإنسان؟
مهاجرون أفارقة في صحراء تونس- أرشيف

 

نظرًا لموقعها الجغرافي، أصبحت تونس محطة رئيسية للمهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، سواء كمحطة عبور أو وجهة نهائية، وهو ما يضعها أمام تحديات اقتصادية وأمنية كبيرة، وتسعى السلطات التونسية إلى التعامل مع الظاهرة عبر إجراءات متعددة، من بينها إعادة توجيه المهاجرين إلى المناطق الصحراوية، وهي سياسة تثير جدلًا حقوقيًا واسعًا حول مدى التوازن بين الأمن والالتزامات الإنسانية.

في ظل هذه التحديات، تجد تونس نفسها أمام اختبار حقيقي: إما الالتزام بالمبادئ الحقوقية التي تبنتها دوليًا، أو الاستمرار في سياسات القمع والإقصاء التي قد تؤدي إلى عزلة دولية وتنديد واسع. 

 وفقاً لتقارير صادرة عن منظمات غير حكومية، تم نقل آلاف المهاجرين غير النظاميين إلى مناطق صحراوية نائية خلال عام 2024، كما تم اعتقال عدد من النشطاء الذين يدافعون عن حقوق هذه الفئة الهشة.

هذه التطورات تثير تساؤلات جدية حول مدى التزام تونس بالمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، خصوصاً في ظل تصريحات رسمية مثيرة للجدل أطلقها الرئيس التونسي قيس سعيد، حيث وصف المهاجرين بأنهم "جحافل من جنوب الصحراء تهدد التركيبة الديموغرافية للبلاد".

تونس كنقطة عبور رئيسية للهجرة 

تُعد تونس، إلى جانب ليبيا، إحدى أهم نقاط العبور للمهاجرين واللاجئين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، الذين يسعون للوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، ووفقاً لبيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن عدد المهاجرين غير النظاميين الذين حاولوا عبور المتوسط انطلاقاً من السواحل التونسية خلال عام 2023 تجاوز 20 ألف شخص، في حين تمكنت السلطات التونسية من إنقاذ أكثر من 600 مهاجر، بينما لقي 18 آخرون مصرعهم في حوادث غرق متكررة. 

تشير تقارير منظمة الهجرة الدولية (IOM) إلى أن تونس شهدت زيادة بنسبة 30% في أعداد المهاجرين غير النظاميين خلال عام 2023 مقارنة بالعام السابق، ويعزى ذلك إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في دول مثل السودان وجنوب السودان ونيجيريا، كما أن تونس تحولت إلى وجهة مؤقتة للعديد من المهاجرين الذين ينتظرون فرصة للعبور إلى أوروبا، ما زاد من الضغوط على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية في البلاد، ووفقاً للمجلس النرويجي للاجئين، فإن أكثر من 70% من المهاجرين في تونس يعيشون في ظروف إنسانية صعبة، مع نقص حاد في الغذاء والمأوى والرعاية الصحية.

تداعيات تصريحات الرئيس 

في فبراير 2023، ألقى الرئيس التونسي قيس سعيد خطاباً وصف فيه المهاجرين غير النظاميين بأنهم يشكلون تهديداً للتركيبة الديموغرافية والاجتماعية لتونس، وهو ما أثار موجة من الجدل داخل تونس وخارجها، واعتبر مراقبون أن هذا الخطاب يحمل طابعاً عنصرياً قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية. 

ووفقاً لتقرير صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد أدت هذه التصريحات إلى زيادة حالات التمييز العنصري ضد المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تم تسجيل أكثر من 200 حالة اعتداء عنصري خلال عام 2023.

وأفادت تقارير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" بأن تصريحات الرئيس التونسي تسببت في تصاعد العداء تجاه المهاجرين، حيث تم طرد العديد منهم من منازلهم وفقدوا وظائفهم، مما جعلهم أكثر عرضة للاستغلال والعنف، كما أن بعض التونسيين بدؤوا ينظرون إلى المهاجرين على أنهم منافسون على فرص العمل المحدودة، في بلد يعاني من معدل بطالة يصل إلى نحو 16%. 

اعتقال النشطاء الحقوقيين 

منذ مايو 2024، شنت السلطات التونسية حملة اعتقالات استهدفت أكثر من 10 نشطاء حقوقيين، من بينهم شخصيات بارزة مثل الناشطة سعدية مصباح، المعروفة بدورها في مكافحة العنصرية والدفاع عن حقوق المهاجرين، ووفقاً لرمضان بن عمر، ممثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن هذه الاعتقالات تأتي في سياق حملة لتضييق الخناق على الجمعيات الحقوقية، وجعل المهاجرين في وضع أكثر هشاشة لإجبارهم على العودة الطوعية إلى بلدانهم الأصلية. 

وشملت قائمة المعتقلين أيضاً شريفة الرياحي، المسؤولة السابقة في جمعية "أرض اللجوء" في محافظة صفاقس، حيث اعتُقلت دون توجيه تهم واضحة، وفقاً لعائلتها، وذكرت والدتها آمنة الرياحي في مؤتمر صحفي أن "ابنتها أم لطفلين صغيرين يعانيان من آثار غيابها"، مضيفةً أن أحدهما، البالغ من العمر أربع سنوات، بات يرفض الذهاب إلى روضة الأطفال منذ اعتقال والدته. 

ويشير تقرير منظمة العفو الدولية إلى أن تونس شهدت تراجعاً حاداً في الحريات المدنية منذ عام 2021، مع فرض قيود مشددة على عمل المنظمات غير الحكومية، وأثار هذا التراجع مخاوف من العودة إلى سياسات قمعية تقوض دور المجتمع المدني في الدفاع عن حقوق الفئات المهمشة.

انتهاك حقوق المهاجرين 

بحسب تقارير منظمات حقوقية، قامت السلطات التونسية خلال عام 2024 بنقل آلاف المهاجرين غير النظاميين إلى مناطق صحراوية نائية، في خطوة وصفتها المنظمات الحقوقية بأنها غير إنسانية، نظراً للمخاطر الصحية والمعيشية التي يواجهها المهاجرون في تلك المناطق القاحلة.

وذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير لها أن هذه الإجراءات قد تشكل انتهاكاً للقانون الدولي، خصوصاً اتفاقية حقوق الطفل والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وأشارت إلى أن العديد من المهاجرين الذين تم نقلهم إلى تلك المناطق يعانون من أمراض مثل الجفاف والتهابات الجلد بسبب الظروف القاسية، كما سُجلت حالات وفاة نتيجة نقص الغذاء والرعاية الطبية. 

دور المجتمع الدولي في الأزمة

مع تصاعد التوترات، تزايدت الدعوات الموجهة للمجتمع الدولي للتدخل من أجل ضمان حماية حقوق المهاجرين والنشطاء في تونس، وناشدت العديد من العائلات التونسية، التي تعرض ذووها للاعتقال أو الاختفاء القسري، المنظمات الدولية لممارسة الضغوط على الحكومة التونسية لاحترام حقوق الإنسان. 

ووفقاً لتقرير صادر عن مركز "بروكنجز"، فإن الاتحاد الأوروبي قدم أكثر من 100 مليون يورو إلى تونس منذ عام 2021 لتعزيز مراقبة الحدود والحد من تدفق المهاجرين غير النظاميين، لكن منظمات حقوقية مثل "أطباء بلا حدود" و"منظمة العفو الدولية" طالبت الاتحاد الأوروبي بربط هذا التمويل بضمانات حقيقية لاحترام حقوق الإنسان، ووقف الدعم المالي إذا استمرت الانتهاكات ضد المهاجرين.

نحو حلول مستدامة لأزمة الهجرة 

تواجه تونس تحديات متزايدة في إدارة ملف الهجرة غير النظامية، في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الداخلية. وبينما تتخذ السلطات إجراءات صارمة للحد من تدفق المهاجرين، فإن هذه السياسات أثارت انتقادات واسعة بسبب تأثيرها على حقوق الإنسان.

لإيجاد حلول مستدامة، يرى خبراء أن تونس بحاجة إلى تعزيز التعاون الإقليمي مع دول شمال إفريقيا وأوروبا لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة، مثل الفقر والصراعات في دول المصدر، كما أن دعم المنظمات المحلية العاملة في مجال حماية المهاجرين قد يسهم في تقليل حدة الأزمة. 

ومن الضروري أيضاً إنشاء آلية مراقبة دولية مستقلة لضمان أن السياسات التونسية المتعلقة بالهجرة تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتوفير بدائل إنسانية بدلاً من الإجراءات العقابية التي قد تزيد من معاناة المهاجرين بدلاً من حل المشكلة.

انتقادات حقوقية وإجراءات مثيرة للجدل

تواجه السلطات التونسية انتقادات واسعة بسبب سياساتها تجاه المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تتزايد المخاوف من انتهاكات حقوقية جراء عمليات الترحيل القسري نحو المناطق الصحراوية، حيث أكدت الإعلامية التونسية ريم بن خليفة أن التعامل الرسمي مع هؤلاء المهاجرين يعكس فشلًا واضحًا في تبني حلول إنسانية ومستدامة، معتبرة أن هذه الإجراءات تتناقض مع الاتفاقيات الدولية التي التزمت بها تونس لحماية حقوق اللاجئين والمهاجرين.

في تصريحات لـ"جسور بوست"، أكدت خليفة أن اللجوء إلى الحلول الأمنية وحدها لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع، مشيرة إلى أن دفع المهاجرين نحو مناطق معزولة لا يحقق أي حل حقيقي، بل يزيد من معاناتهم، ولفتت إلى أن المطلوب هو سياسات عادلة تحفظ حقوق هؤلاء الأفراد وتضمن إدماجهم في المجتمع بدلاً من تهميشهم.

تصاعد الخطاب العنصري وتراجع الحريات

حذّرت خليفة من تصاعد الخطاب العنصري ضد المهاجرين، مشيرة إلى تصريحات مثيرة للجدل لبعض المسؤولين، مثل ادعاء النائبة فاطمة المسدي أن نساء إفريقيا جنوب الصحراء "أكثر خصوبة من التونسيات" وأن وجودهم "يهدد التركيبة الديمغرافية للبلاد"، إضافة إلى مزاعم حول "بناء مدن موازية داخل الدولة"، واعتبرت خليفة أن مثل هذه التصريحات ليست مجرد مواقف فردية، بل تعكس مناخًا عامًا يغذي العداء ضد المهاجرين، في ظل انتشار محتوى تحريضي عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

لم يتوقف الأمر عند الخطاب العدائي، بل امتد ليشمل التضييق على النشطاء الحقوقيين، حيث انتقدت خليفة الاعتقالات التي تطول المدافعين عن حقوق المهاجرين، معتبرة أنها مؤشر خطير على تراجع حرية التعبير في تونس، وأضافت أن الدولة بدلًا من محاربة النشطاء، ينبغي أن تفتح قنوات الحوار معهم، لأن منظمات المجتمع المدني يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تقديم حلول أكثر إنسانية واستدامة.

الهجرة بين المخاطر الفردية والتحديات المجتمعية

من جانبه، أكد الخبير الاجتماعي وأستاذ كشف الجريمة بمركز البحوث الاجتماعية والجنائية، فتحي قناوي، لـ“جسور بوست” أن الهجرة غير النظامية تمثل أزمة معقدة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وأمنية عميقة، حيث تدفع الظروف المعيشية الصعبة الشباب إلى بيع ممتلكاتهم وخوض مخاطر كبيرة بحثًا عن مستقبل أفضل، وأوضح أن هذه الرحلات غالبًا ما تكون محفوفة بالمخاطر، سواء أثناء عبور البحر أو عند الوصول إلى دول الوجهة.

يرى قناوي أن المهاجرين غير النظاميين يعانون من أزمات نفسية واجتماعية، إذ يشعرون بعدم الانتماء لمجتمعاتهم الأصلية بسبب قلة الفرص، ما يجعلهم عرضة للاستغلال، كما أن الأسر التي تدعم أبناءها للهجرة تدفع ثمنًا باهظًا، ليس فقط اقتصاديًا، بل أيضًا على مستوى التفكك الأسري والصدمات النفسية الناتجة عن الغرق أو الاختفاء.

وأشار إلى أن الأموال التي تُنفق على الهجرة غير النظامية تمثل نزيفًا اقتصاديًا خطيرًا، حيث تذهب مبالغ ضخمة إلى شبكات التهريب بدلًا من استثمارها في مشاريع تنموية، كما أن المهاجرين غالبًا ما يعملون في ظروف غير إنسانية، ما يجعلهم في أدنى درجات السلم الاجتماعي ويفقدهم الشعور بالانتماء الوطني.

الحلول المستدامة

يؤكد قناوي أن العزل أو الترحيل ليسا من الحلول مستدامة للأزمة، بل ينبغي التركيز على تطوير استراتيجيات شاملة لتحسين الأوضاع الاقتصادية داخل الدول المصدرة للهجرة، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي لمكافحة شبكات تهريب البشر، إلى جانب توفير آليات قانونية تضمن حقوق المهاجرين وتحميهم من الاستغلال.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية