رئاسة "الشحي" للجنة الميثاق العربي.. إشراقة قانونية في زمن تراجع الحقوق

رئاسة "الشحي" للجنة الميثاق العربي.. إشراقة قانونية في زمن تراجع الحقوق
المستشار الإماراتي محمد علي الشحي

في مشهدٍ يعكس التزام العالم العربي المتجدد بحقوق الإنسان، انتُخب المستشار الإماراتي محمد علي الشحي رئيسًا للجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان خلال الدورة السادسة والخمسين للجنة، التي عُقدت في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية يومي 20 و21 مايو 2025. هذا الانتخاب يُعدّ تتويجًا لمسيرة قانونية حافلة، ويضع الشحي في موقعٍ محوري لتعزيز حقوق الإنسان في المنطقة.

يُعد المستشار محمد علي الشحي أحد أبرز الأسماء القانونية في العالم العربي، إذ يتمتع بخبرة مهنية تمتد لأكثر من عقدين في ميدان القضاء والعمل القانوني. وقد أرسى لنفسه سمعة قوية كرجل قانون لا يساوم على مبادئ العدالة وحقوق الإنسان، متسلحًا بخبرة أكاديمية ومهنية متراكمة تُؤهله لقيادة أبرز المنصات الحقوقية في الإقليم.

انضم الشحي إلى لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان في 3 أكتوبر 2023، وهو التاريخ الذي مثّل نقطة تحول في مسار اللجنة نحو مزيد من الفاعلية والالتزام. 

منذ حصوله على عضويتها، لعب دورًا محوريًا في صياغة الملاحظات الختامية بشأن التقارير الدورية للدول الأعضاء، وكان صوتًا صريحًا في الدعوة لتفعيل آليات المساءلة ومتابعة تنفيذ التوصيات المنبثقة عن الميثاق. وقد عُرف عنه حرصه على ضمان توافق التشريعات المحلية للدول مع المعايير المنصوص عليها في الميثاق العربي، الذي اعتُمد عام 2004 ودخل حيز النفاذ في 2008.

سيرة الشحي القانونية

لكن سيرة الشحي القانونية لم تبدأ من الجامعة العربية؛ فقد سبق له أن شغل عدة مناصب قضائية رفيعة في دولة الإمارات العربية المتحدة، من بينها عضويته في المجلس القضائي الأعلى، وعمله مستشاراً في محكمة التمييز بدبي، وهي أعلى هيئة قضائية في الدولة. 

كما كان من أوائل القضاة الذين أسهموا في تأسيس قضاء إداري مستقل يُعنى بالنزاعات بين الأفراد والجهات الحكومية، ما عزز ثقة المواطن بمؤسسات العدالة.

في ميدان التشريع، أسهم الشحي في صياغة ومراجعة العديد من مشاريع القوانين الاتحادية المتعلقة بحقوق الإنسان، بما في ذلك قانون مكافحة التمييز والكراهية (2015)، وقانون حماية الطفل (وديمة) لعام 2016، وقانون تنظيم المؤسسات الأهلية.

عرف عن المستشار الشحي اهتمامه العميق بالتكوين الأكاديمي؛ فهو حاصل على درجة الماجستير في القانون المقارن من جامعة باريس 2 – بانتيون أساس، وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية التي تنظمها الأمم المتحدة والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، ممثلًا عن دولة الإمارات.

خبرة الشحي، إذن، ليست مجرد وظيفة، بل مسيرة ذات جذور ضاربة في العمل المؤسسي الجاد، ومبنية على قناعة راسخة بأن العدالة لا تكون فعلًا إلا حين تتحول إلى واقع يُعاش ويُحترم.

رؤية استراتيجية للمرحلة المقبلة

مع انتخاب المستشار محمد علي الشحي رئيسًا للجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان، تدخل اللجنة مرحلة جديدة من التحول المؤسسي والعمل الحقوقي المنهجي، تستند إلى رؤية استراتيجية متعددة المحاور، تتجاوز الأطر التقليدية نحو آليات فاعلة تُعزز من تأثير الميثاق وتُقربه من واقع المواطن العربي.

في ظل التحديات المتسارعة في المنطقة، يُتوقع أن يُركز الشحي على تعزيز آليات تنفيذ الميثاق، وهو أحد أبرز الملفات التي طالما شكلت فجوة بين النصوص والواقع؛ إذ تشير بيانات الأمانة الفنية للجنة إلى أن أقل من 40% من الدول الأطراف في الميثاق التزمت بتقديم تقاريرها الدورية في موعدها حتى عام 2024، ما يستوجب آليات أكثر فاعلية للمتابعة والمساءلة. وفي هذا السياق، يتبنى الشحي منهجية قائمة على التقييم المرحلي، وربط تنفيذ التوصيات بخطط زمنية قابلة للقياس، إلى جانب وضع مؤشرات واضحة لمدى الامتثال لكل دولة.

ويُخطط الشحي لتطوير آليات الرصد والتقييم المستقل عبر إشراك مؤسسات أكاديمية ومنظمات حقوقية محلية كمصادر للمعلومات البديلة، وهو توجه يعكس رغبة في الخروج من النمط البروتوكولي إلى مقاربة حقوقية شاملة. وتُشير بعض المقترحات قيد الدراسة داخل اللجنة إلى إمكانية إطلاق مرصد سنوي عربي لحالة حقوق الإنسان يُبنى على منهجيات علمية ويوثق الانتهاكات والتقدم المحرز في آنٍ معًا.

ولعل من أبرز معالم رؤية الشحي للمرحلة المقبلة هو توسيع التعاون مع منظمات المجتمع المدني، التي طالما عانت من التهميش في المشهد الحقوقي العربي. فبموجب الميثاق، تُعد هذه المنظمات شريكًا أساسيًا، وليس مجرد مراقب، وهو ما يسعى الشحي إلى ترجمته عبر فتح قنوات تشاورية أكثر انفتاحًا، وتسهيل مشاركة هذه الجهات في صياغة التوصيات ومتابعة تنفيذها على الأرض.

أما في ملفات حقوق المرأة والطفل وحرية التعبير والأقليات، فقد أظهر الشحي خلال عضويته في اللجنة انحيازًا واضحًا لقضايا الفئات الأكثر هشاشة. وتُفيد مصادر من داخل الأمانة العامة للجامعة العربية أن الشحي يعمل على تأسيس فرق عمل فرعية متخصصة في هذه المجالات، وربما تُشكل هذه الفرق نواة لتحديث الميثاق نفسه، الذي لم يُراجع منذ دخوله حيز التنفيذ عام 2008.

إنها رؤية تعكس عقلية إصلاحية ومهنية، تستهدف تقوية البنية المؤسسية للجنة وتوسيع نطاق تأثيرها الإقليمي، وتحويلها من منصة رمزية إلى أداة فاعلة في بناء بيئة عربية تصون الكرامة الإنسانية.

بارقة أمل في زمن التحولات

في خضم ما تشهده المنطقة العربية من تقلبات سياسية وأمنية، وتراجع في مؤشرات الحريات الفردية، يأتي انتخاب المستشار محمد علي الشحي رئيسًا للجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان في مايو 2025 ليشكّل علامة فارقة في المشهد الحقوقي العربي، وبادرة تحمل في طياتها كثيرًا من الأمل والتطلع نحو مسار أكثر اتزانًا وإنصافًا للكرامة الإنسانية.

تواجه حقوق الإنسان في العالم العربي تحديات معقدة ومركبة، تراوح بين النزاعات المسلحة والانتهاكات الناتجة عنها، والقيود المفروضة على حرية التعبير والتنظيم، وانتهاك حقوق المرأة والأقليات. وبحسب تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان لعام 2024، فإن أكثر من 70% من دول المنطقة سجلت تراجعًا في مؤشر حرية الرأي والتعبير، فيما لا تزال قوانين الطوارئ سارية المفعول في خمس دول على الأقل، وهو ما ينعكس مباشرة على مناخ الحريات العامة وحقوق الإنسان.

في ظل هذا السياق المتشابك، يُنظر إلى انتخاب الشحي، بخبرته القضائية العميقة ورؤيته المؤسسية، على أنه نقلة نوعية في مسار اللجنة. فالرجل لا يأتي إلى هذا المنصب من موقع رمزي، بل من خلفية قانونية تتسم بالحزم والمهنية، حيث خدم سابقًا في مناصب قضائية عليا بالإمارات، وله إسهامات بارزة في تطوير التشريعات الحقوقية، إضافة إلى مشاركته في جلسات تقييم الأداء الحقوقي لدول الميثاق خلال دورات اللجنة السابقة.

التحدي الأكبر الذي يواجه الشحي يتمثل في تحويل اللجنة من هيئة استشارية شبه معزولة إلى كيان مؤثر في السياسات الحقوقية الإقليمية، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة العلاقة مع الدول الأعضاء، وتفعيل دور المتابعة والمساءلة، خاصة أن عدد التقارير الدورية المقدمة من الدول لم يتجاوز 9 تقارير منذ 2008، رغم أن الميثاق يفرض تقديمها كل ثلاث سنوات.

لكن الأمل يكمن في أن هذه اللحظة قد تكون بداية لإعادة تشكيل دور اللجنة. فمع قيادة الشحي، تتوفر إمكانات لتطوير أداء اللجنة عبر آليات تقييم مؤسسية مستقلة، وإشراك حقيقي لمنظمات المجتمع المدني، وتبني منهجيات حقوقية مبنية على الشفافية وقياس الأثر.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية