أرض مسلوبة وحياة مهددة.. اعتداءات المستوطنين نمط متكرر من انتهاكات حقوق الإنسان
أرض مسلوبة وحياة مهددة.. اعتداءات المستوطنين نمط متكرر من انتهاكات حقوق الإنسان
تتواصل الاعتداءات التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية المحتلة ضد الفلسطينيين، لتشكل نمطًا متكررًا ومتصاعدًا من الانتهاكات والجرائم الحقوقية، وهذه الاعتداءات ليست مجرد حوادث فردية، بل هي جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى التضييق على الفلسطينيين وتهجيرهم من أراضيهم، ما يهدد وجودهم ويقوض أي فرص للسلام والاستقرار في المنطقة.
ورغم التحذيرات المتكررة من منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة، إلا أن هذه الاعتداءات تستمر بوتيرة مقلقة، مع إفلات شبه كامل للمعتدين من العقاب، وفي الأشهر الأخيرة، شهدت الضفة الغربية قفزة نوعية في عدد وشدة اعتداءات المستوطنين، لم تعد هذه الاعتداءات مقتصرة على حرق أشجار الزيتون أو سرقة المحاصيل، بل تطورت لتشمل اعتداءات جسدية بالأسلحة النارية والبيضاء، وإضرام النيران في المنازل والمساجد، وتخريب الممتلكات، واستهداف الرعاة والمزارعين العزل وغيرها من جرائم.
تقول أم أسامة، وهي مزارعة خمسينية من قرية ترمسعيا شمال رام الله، في تصريحات صحفية بينما كانت تشير إلى أرضها المحروقة بفعل هجوم حديث للمستوطنين: "زرعنا أشجار الزيتون هذه منذ عشرين عامًا واليوم أحرقوها في دقائق.. ليس الهدف فقط الشجر، بل قلبنا وأملنا في البقاء هنا".
أرقام تكشف حجم الكارثة
وفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) الصادر في يونيو 2025، سجّل النصف الأول من هذا العام أكثر من 700 اعتداء نفذه مستوطنون ضد الفلسطينيين، أي بمعدل نحو أربعة اعتداءات يوميًا، وتسببت هذه الاعتداءات في إصابة ما لا يقل عن 148 فلسطينيًا بجروح متفاوتة، بينهم 27 طفلًا، إضافةً إلى إحراق و تدمير مئات المركبات والمنازل واقتلاع آلاف الأشجار المثمرة.
أما منظمة "يش دين" الإسرائيلية لحقوق الإنسان، فوثّقت في تقريرها السنوي الصادر في مايو 2025 أن 93% من شكاوى الفلسطينيين ضد المستوطنين يُغلقها الجيش أو الشرطة الإسرائيلية دون توجيه اتهام، وهو ما وصفته المنظمة بنظام حصانة مؤسسي يشجع المستوطنين على تكرار الاعتداءات.
نماذج من الميدان
قبل أسابيع، اقتحم عشرات المستوطنين بلدة دير دبوان شرقي رام الله تحت حماية الجيش الإسرائيلي، واعتدوا على منازل المدنيين بالحجارة والعصي، ما أسفر عن إصابة ثلاثة فلسطينيين بجروح خطيرة. وفي الخليل، أقدم مستوطنون على إشعال النار في مسجد قيد الإنشاء، بينما رُصد في نفس اليوم اعتداء آخر في قرية مادما جنوب نابلس، حيث تم إحراق عشرات الدونمات الزراعية.
يقول محمد (27 عامًا) من نابلس: "الجنود كانوا يقفون قرب المستوطنين ولم يحركوا ساكنًا، حتى بدا وكأنهم يحمونهم. شعرنا أننا وحدنا في مواجهة هذا العنف".
وفي أحدث الاعتداءات أجبرت عائلتان فلسطينيتان، يوم الجمعة، على الرحيل قسراً عن مساكنهم في منطقة المالح بالأغوار الشمالية، بعد تصاعد وتيرة الاعتداءات التي ينفذها المستوطنون بحماية الجيش الإسرائيلي بحقهم.
وقالت مصادر محلية، إن عائلتين هُدّمت مساكنهم، وارتحلوا إلى منطقة العوجا قرب أريحا، بعد ارتفاع وتيرة اعتداءات المستوطنين.
وكانت منطقة المالح، قد شهدت مؤخراً هجوماً للمستوطنين، تخلله إطلاق نار في الهواء، واعتداء على المواطنين وممتلكاتهم، وسرقة عشرات رؤوس الماشية، وقتل أكثر من 100 رأس من الماشية.
استيطان تحميه السياسة
يعود النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية إلى أعقاب حرب عام 1967، لكنه ازدادت وتيرته بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في التسعينات. واليوم، يعيش أكثر من 750 ألف مستوطن في أكثر من 280 مستوطنة وبؤرة استيطانية منتشرة في أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية.
بحسب القانون الدولي، تعتبر جميع المستوطنات غير قانونية؛ إذ تحظر اتفاقية جنيف الرابعة نقل السلطة القائمة بالاحتلال لجزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها. ومع ذلك، واصلت الحكومات الإسرائيلية دعم التوسع الاستيطاني بالموارد والخدمات والبنى التحتية.
العنف أداةً للتهجير
يصف خبراء ومنظمات حقوقية اعتداءات المستوطنين بأنها ليست مجرد أفعال فردية، بل جزء من سياسة أوسع لدفع الفلسطينيين إلى النزوح عن أرضهم. تقرير حديث صادر عن "بتسيلم" في أبريل 2025 يؤكد أن الجيش الإسرائيلي لا يكتفي بغض الطرف، بل يشارك أحيانًا في حماية المستوطنين أثناء هجماتهم.
هذا العنف لا يقتصر على المزارع والأراضي، بل يشمل شوارع المدن والمداخل والطرقات الرئيسية، ما يؤدي عمليًا إلى شلّ الحركة الفلسطينية، وقد أجبر العنف المتكرر منذ مطلع 2024 أكثر من 600 فلسطيني على ترك منازلهم في مناطق شمال الضفة الغربية، وفق توثيق الأمم المتحدة.
تقارير حقوقية لا تجد آذاناً مصغية
في فبراير 2025، أعربت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، عن قلقها البالغ من تصاعد غير مسبوق في عنف المستوطنين، مؤكدة أن هذه الاعتداءات «جزء من نظام فصل عنصري هدفه السيطرة الدائمة على الأرض الفلسطينية».
وأضاف تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2025 أن المستوطنين نفذوا هجمات "منهجية" بمساعدة الجيش الإسرائيلي، في خرق واضح للقانون الدولي الذي يلزم القوة القائمة بالاحتلال بحماية السكان المدنيين.
والنقطة الأكثر خطورة أن المعتدين نادرًا ما يُحاكمون، في حين يُلاحق الفلسطينيون قضائيًا بشكل صارم حتى في أحداث دفاع عن النفس، وقد اعتبرت "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها الصادر في مايو أن غياب المساءلة يشكّل رسالة ضمنية بأن العنف ضد الفلسطينيين مباح.
أثر إنساني عميق
تترك هذه الاعتداءات ندوبًا نفسية بليغة إلى جانب الخسائر المادية، فقد أشارت منظمة "أطباء بلا حدود" في تقريرها لعام 2025 إلى ارتفاع معدلات الاضطرابات النفسية بين الأطفال في المناطق القريبة من المستوطنات، إذ يعيشون في حالة خوف دائم من هجوم مفاجئ.
كما أن خسارة الأراضي الزراعية، وهي المصدر الرئيسي للدخل في الريف الفلسطيني، تدفع مزيدًا من الأسر تحت خط الفقر، الذي طال أكثر من 60% من الفلسطينيين في الضفة الغربية وفق إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2025.
ورغم صدور عشرات القرارات الأممية التي تدعو لوقف العنف الاستيطاني، مثل القرار 2334 الصادر عام 2016، تواصل الحكومات الإسرائيلية دعم المستوطنات وتوفير الحماية الأمنية لها، وتجد الإدانات الدولية طريقها إلى البيانات الصحفية، لكنها قلّما تتحول إلى خطوات ملموسة للضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها.
بقاء فلسطيني مهدد
في نهاية المطاف، لا تهدد اعتداءات المستوطنين حياة الفلسطينيين اليومية فحسب، بل تهدد أيضًا وجودهم الوطني، عبر تغيير معالم الأرض وفرض وقائع جديدة تعمّق الانقسام الجغرافي والديموغرافي للضفة الغربية.
ويختم تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" لشهر يونيو 2025: "إذا استمر إفلات المستوطنين من العقاب، فإن العنف سيصبح أكثر شراسة، وسيدفع نحو موجة تهجير قسري، تُقوض أي إمكانية لحل سلمي قائم على العدل".
تبقى الاعتداءات اليومية التي ينفذها المستوطنون جرحًا مفتوحًا في الجسد الفلسطيني، ونموذجًا صارخًا لعنف محميّ رسميًا، وبينما تنشغل السياسة الدولية بالتصريحات، يعيش الفلسطينيون في خوف دائم على أرضهم وبيوتهم وأحلام أبنائهم، منتظرين عدالة قد لا تأتي إلا بضغط دولي حقيقي، يحمي حياة الناس قبل أن يفوت الأوان.