عدالة مُعلّقة.. ماذا تقول 79 ألف إدانة دستورية عن أزمة حقوق الإنسان في تركيا؟

عدالة مُعلّقة.. ماذا تقول 79 ألف إدانة دستورية عن أزمة حقوق الإنسان في تركيا؟
تركيا

على امتداد أكثر من عقد من الزمن، تزايدت في تركيا أرقامٌ وأصواتٌ توثّق أزمةً حقوقيةً متجذّرة، تلامس تفاصيل الحياة اليومية لمئات الآلاف من المواطنين، وتفضح في الوقت ذاته مسارًا سياسيًا لم يعد يخفي ميله المتسارع نحو التسلّط، فقد أعلنت المحكمة الدستورية التركية أنها وجدت انتهاكًا واحدًا على الأقل لحق أساسي في أكثر من79,500 قضية منذ عام 2012، لتؤكد ما ظلّت تنادي به المنظمات الحقوقية المحلية والدولية منذ سنوات: أنّ الأزمة في تركيا ليست عابرة أو معزولة، بل هي هيكلية ومتعمقة.

أرقامٌ تتحدث عن أزمة عميقة

وفق البيانات الرسمية للمحكمة، تلقّت تركيا منذ 23 سبتمبر 2012، وهو التاريخ الذي سُمح فيه لأول مرة بتقديم طلبات فردية للمحكمة الدستورية، حتى نهاية يونيو 2025، 686,484 شكوى تتعلق بانتهاكات حقوقية. نظرت المحكمة في 573,180 منها، رافضةً ما يقرب من 475,850 طلبًا لعدم قبولها، بينما أثبتت وجود انتهاكات في 79,565 قضية.

هذه الأرقام الكثيفة ليست مجرد إحصاءات جافة؛ بل قصصاً حقيقية عن أفراد فقدوا حريتهم أو حُرموا من محاكمة عادلة، أو تعرضوا لانتهاك خصوصيتهم، أو صودرت ممتلكاتهم دون وجه حق. الأكثر إثارة للقلق أن الطلبات ما زالت تتدفق بوتيرة مرتفعة: ففي عام 2022 تلقت المحكمة رقمًا قياسيًا بلغ 109,779 طلبًا، يليه 108,816 في 2023، ثم 70,699 في 2024، وأخيرًا 36,031 طلبًا في النصف الأول فقط من عام 2025.

صورة قاتمة للعدالة والحريات

من بين آلاف القضايا التي أقرت المحكمة بوجود انتهاكات فيها، يتصدر الحق في المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة القائمة، بـ56,443 حالة، وهذا المؤشر وحده يكشف عن أزمة مزمنة في بنية العدالة المؤسسية داخل تركيا، حيث يطول الانتظار ويضيع العمر في أروقة المحاكم.

تأتي بعد ذلك انتهاكات الحق في محاكمة عادلة (7,587 حالة)، وحقوق الملكية (5,813 حالة)، وحرية التعبير (4,552 حالة)، إضافة إلى الحق في الخصوصية والحياة الأسرية (1,976 حالة)، وحرية التجمع (1,548 حالة)، وباقي القضايا توزعت على انتهاكات أخرى لحقوق أساسية، بما فيها حرية العقيدة والتنقل.

بين القمع السياسي وانسداد الأفق الديمقراطي

لفهم هذه الأرقام، لا بد من العودة إلى الخلفية التاريخية والسياسية التي مهدت لها، فبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016، شنت السلطات التركية حملة قمع وُصفت بأنها الأوسع في تاريخ الجمهورية، مستهدفة الصحفيين والأكاديميين والقضاة والجنود والمعارضين السياسيين تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.

بحسب منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، استخدمت الحكومة في تركيا قوانين الطوارئ والمحاكمات الجماعية لإسكات المعارضين وإحكام السيطرة على مؤسسات الدولة، خاصة القضاء، تقارير المفوضية السامية لحقوق الإنسان للأمم المتحدة أشارت مرارًا إلى تزايد حالات الاعتقال التعسفي، ومصادرة الممتلكات، وفصل الموظفين بشكل جماعي، في انتهاك للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

المعارضة تحت الحصار

خنق الحريات لم يتوقف عند المعارضين السياسيين، بل امتد إلى الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني، حيث تشير تقارير لجنة حماية الصحفيين إلى أن تركيا كانت بين أكثر الدول التي تسجن الصحفيين في العالم خلال العقد الماضي، فقد أُغلِقت عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية، واتُهم آلاف الصحفيين والمدونين والناشطين بنشر دعاية إرهابية لمجرد انتقادهم الحكومة.

أما حرية التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي فليست أفضل حالًا؛ فقد وثّقت هيومن رايتس ووتش محاكمات طالت مستخدمين بسبب تغريدات تنتقد سياسات الحكومة أو تعاطفهم مع قضايا الأقليات.

مأزق مؤسسة القضاء

رغم الدور المهم الذي لعبته المحكمة الدستورية في كشف الانتهاكات، فإن مؤسسات المجتمع المدني ترى أنها لم تُفلح في وقف التراجع الحقوقي، إذ يرى منتقدون أن المحكمة تعمل تحت ضغط سياسي، وأن قراراتها غالبًا تُنفذ جزئيًا أو يُلتف عليها.

مركز ستوكهولم للحرية حذر في تقاريره الأخيرة من أن قبول المحكمة لهذا الكمّ الضخم من الشكاوى، دون تحرك سياسي لإصلاح القوانين والسياسات، يكرّس أزمة العدالة بدلًا من حلها.

وراء كل رقم إنسانٌ وعائلة

الأرقام تُخبرنا عن انتهاكات هيكلية، لكن خلف كل رقم حكاية شخص فقد حريته أو حُرم من رؤية أسرته أو خسر سنوات من عمره في محاكمات لا تنتهي، حكايات عائلات مكلومة، وطلاب مُنعوا من الدراسة، وأصحاب أعمال فقدوا ممتلكاتهم بموجب مراسيم الطوارئ.

الأزمة في جوهرها ليست صراعًا قانونيًا فقط، بل مأساة إنسانية مستمرة يدفع ثمنها الأفراد أولًا، والمجتمع التركي ثانيًا.

يرى مراقبون أن التغيير الجذري يتطلب إرادة سياسية حقيقية لإصلاح القضاء، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وضمان استقلال المؤسسات الدستورية، في الوقت نفسه، يدعو ناشطون المجتمع الدولي للضغط السياسي والدبلوماسي على أنقرة للتقيد بالتزاماتها بموجب الاتفاقيات الدولية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية