الترحيل القسري من باكستان.. ماذا يعني عودة مليون أفغاني إلى بلدٍ محطم؟
الترحيل القسري من باكستان.. ماذا يعني عودة مليون أفغاني إلى بلدٍ محطم؟
في صباحٍ حار على معبر تورخام، تقف عائلات أفغانية تحمل حقائب صغيرة وأوراقًا متعبة، وقد طُوي جزء كبير من حياتهم في بلدٍ احتضنهم لعقود، البعض عادوا على مضض بعدما فقدوا أحلامهم وحساباتهم المصرفية وأيضًا أمانهم، آخرون اقتلعوا فجأة من وظائف ومساكن، وبدا ذلك كصاعقة على ما تبقّى من استقرار هشّ، لم تعد العودة مجرد عبارة سياسية، بل واقعاً يومياً يعرّض الآلاف لمخاطر التعرّض للاضطهاد والفقر والحرمان من الحقوق الأساسية.
منذ إطلاق حملة الترحيل في أواخر 2023 تتابع وكالات الأمم المتحدة ولاياتها، وتوثّق موجات إرجاع كبيرة، وتشير تقارير مشتركة ومنشورات رصدية للأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون عائد من باكستان سُجّلوا خلال فترات الحملة، فيما تُسجل مؤسسات أممية محلية ووثائق منسقة زيادات أسبوعية في أعداد العائدين تُثقل كاهل أفغانستان، التي تفتقر بدورها إلى القدرة على استقبال هذا الحجم من الواصلين، وفق موقع "أوتشا".
في نهاية يوليو 2025 أصدرت السلطات الباكستانية قرارًا تنظيميًا (SRO) أعلن أن بطاقات PoR التي انتهت صلاحيتها في يونيو أصبحت بلا أثر قانوني، ما سمح بعمليات اعتقال وترحيل سريعة لعدد من حامليها، وفتحت الباب أمام حملات إدارية لتسريع الإعادة، ورصدت مؤسسات إعلامية دولية بدء عمليات ترحيل مسجّلة تضمّ مقيمين يحملون تصاريح كانت معترَفًا بها لعقود.
ردود الفعل الحقوقية والأممية
منظمات أممية وحقوقية دولية مثل الأمم المتحدة وهيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية "أمنستي" أصدرت تحذيرات من أن طرد النازحين الأفغان يعرّضهم للاتهام بالاضطهاد والضياع الاقتصادي، وأدانت ما وصفته بالإجراءات القسرية أو ضغوطًا لإجبار اللاجئين على المغادرة، كما طالبت مفوضية اللاجئين والآليات الإنسانية بأن تُستثنى الفئات المعرضة للخطر من إجراءات الإعادة، وأن تُمنح مهلة وعملية منظّمة للعودة الطوعية المدعومة وبالكرامة.
باكستان ليست طرفًا في اتفاقية جنيف للاجئين 1951 ولا بروتوكولها، لكن هذا لا يُنفي عنها التزامات أساسية بمقتضى القانون الدولي والعرفي، ويعتبر مبدأ عدم الإعادة القسرية قاعدة عرفية تُلزم الدول بعدم إعادة أشخاص إلى مكان يعرّضهم للاضطهاد أو الأذى الجسيم، كما تُطالب معايير حقوق الإنسان بضرورة ضمان إجراءات عادلة، وعدم احتجاز اللاجئين تعسفيًا، وإتاحة الوصول إلى آليات طبية واجتماعية وحماية خاصة للنساء والأقليات والناشطين المعرضين للخطر وعلى أرض الواقع، يضع غياب باكستان عن معاهدة اللاجئين مزيدًا من العبء على المجتمع الدولي وعلى وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لتقديم الحماية والدعم.
مخاطر مضاعفة للنساء والفتيات
عودة قسريّة إلى أفغانستان تعني مخاطر مضاعفة للنساء والفتيات في ظل سياسات طالبان التي قيّدت التعليم والعمل والحرية العامة لهن، كما تُعرّض النشطاء والسياسيين والصحفيين الذين طالبوا بحقوق أو كشفوا فساداً أو تعاونوا مع مؤسسات دولية لخطر الاعتقال أو الانتقام، وقد وثقت منظمات حقوقية دولية منها "هيومن رايتس ووتش" حالات مدوّية لأسماء معروفة باتت في عداد المعرضين فور عودتها.
استقبال مئات الآلاف من العائدين خلال أشهر يضع ضغوطًا هائلة على أسواق العمل، والخدمات الصحية، والتعليم، والإسكان. كما أن إنفاق الدولة المحدود، والعقوبات وحواجز التمويل الدولي ضد السلطات القائمة تُفاقم الأزمة، فيما تُشير مؤشرات أممية إلى أن جزءًا كبيرًا من العائدين تقل أعمارهم عن 18 عامًا، ما يضع عبئا طويل الأمد على المحيط الاجتماعي والاقتصادي.
وطرحت منظمات حقوقية وإنسانية عدة توصيات منها لا عودة قسرية، وإعادة تنظيمية طوعية ومدعومة، ومنح استثناءات فورية للفئات الضعيفة، لافتة إلى أن هذا يتطلب ثلاثة عناصر متزامنة تشمل طلبات استعجالية لوقف الترحيل القسري ومنح مهلات زمنية وفق شروط تُشرف عليها الأمم المتحدة، وتمويلاً دولياً فورياً لبرامج الاستقبال وإعادة الإدماج في أفغانستان (وظائف، سكن مؤقت، دعم نقدي ومساعدات صحية ونفسية)؛ بجانب تسريع آليات إعادة توطين قَصَريّة أو منقذة لذوي المخاطر العالية لدى دولٍ ثالثة، بالإضافة إلى حماية قانونية وطنية في باكستان حتى يتم الترتيب الآمن للعودة، وقد طالبت منظمات دولية صراحة بآليات استثناء لحاملي بطاقات الحماية ولمن هم في حاجة ملحّة للحماية الدولية، وفق مفوضية شؤون اللاجئين ومنظمة العمل الدولية.
مسؤولية المجتمع الدولي
وتؤكد المنظمات الحقوقية أن الاستجابة وحدها لن تُولد نتائج ما لم تُترجم إلى تمويل والتزام سياسي، وعلى الدول المانحة تمويل خطط الطوارئ والبرامج الاقتصادية في أفغانستان، وعلى دول اللجوء تسريع منح حق اللجوء وفتح خطوط طوارئ لإيواء الناشطين والنساء المعرّضات، وعلى المجتمع الدولي تطبيق آليات مساءلة لوقف سياسات الطرد الجماعي، كذلك مطلوب خلق فرص عمل متنقلة وبرامج تدريبية وعقود عمل خارجية لتخفيف الضغط المحليّ، وهي حلول قصيرة ومتوسطة الأمد لكنها ضرورية الآن.
ما يحدث اليوم على الحدود بين باكستان وأفغانستان ليس أرقامًا على لوحة رصد، بل هو حياة بشرية تتفتت، في صور متعددة منها أطفال يفقدون تعليمهم، ونساء يُجبرن على العودة إلى قيود تمنعهن من العمل، وناشطون يواجهون خطر السجن أو الأسوأ.
وتؤكد "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" أن أي نهج يفضّل الإدارة الأمنية على الكرامة الإنسانية سيترك وراءه جراحًا اجتماعية وسياسية تمتد لسنوات، وأن الحلّ الحقيقي يبدأ بوقف الترحيل القسري فورًا، وبآلية دولية متضامنة تسمح بالعودة الطوعية المأمونة أو بدائل ملجأ عاجلة لمن هم في خطر.