أيرلندا تواجه اختباراً إنسانياً.. كيف تحرّك الدولة المجتمع لمكافحة الاتجار بالبشر؟
أيرلندا تواجه اختباراً إنسانياً.. كيف تحرّك الدولة المجتمع لمكافحة الاتجار بالبشر؟
تصاعدت أرقام ضحايا الاتجار بالبشر المعروفة في أيرلندا خلال السنوات الأخيرة، فيما تؤكد تقارير مراقبات وطنية وأوروبية أن الأرقام الحقيقية أعلى بكثير وأن نظام الحماية لا يزال يعاني من ثغرات عملية ومؤسسية تحول دون توفير دعم كامل للضحايا، ولا سيما الأطفال. "جسور بوست" تقدّم في هذا التقرير قراءة لأسباب الأزمة وتداعياتها، واستعراض مواقف الهيئات الحقوقية الدولية والمحلية والتوصيات الفنية اللازمة لتعزيز الاستجابة.
زيادة في عدد الضحايا
أفادت اللجنة الأيرلندية لحقوق الإنسان والمساواة أن السلطات حدّدت 162 ضحية اتجار بالبشر خلال الفترة 2022–2024، أي بارتفاع نحو 30 في المئة مقارنة بالأعوام 2019–2021، لكن اللجنة حذّرت صراحة من أن هذا الرقم لا يعكس حجم المشكلة الحقيقي وأن العديد من الضحايا لا يزالون غير معرّفين وغير محميين، وتربط الجهات الرقابية هذا التفاوت بنقص آليات الكشف المبكر وانكماش قدرات الأطراف المعنية على التعرف على أشكال بعينها من الاستغلال، ولا سيما الاستغلال الاقتصادي والجريمة المنظمة القائمة على تجنيد الأطفال.
أسباب بنيوية معاصرة
ترتبط جذور المشكلة بعدة عوامل مترابطة من بينها هجرة غير منتظمة واستغلال سُبُل التهريب، وعدم كفاية إجراءات الوقاية في قطاعات عرضة للاستغلال مثل الزراعة والضيافة والبناء، وفجوات في أنظمة الكشف التي تمنح أحياناً أولوية لخطوط إنفاذ القانون على حساب نهج حماية الضحايا، كما يلعب تعقيد الحدود المشتركة مع شمال أيرلندا وديناميكية التنقّل داخل المنطقة دوراً في تيسير عبور شبكات الاتجار وتحويل مسارات الضحايا، وتوثق تقارير دولية ومحلية أن التهديدات لم تقتصر على الاستغلال الجنسي بل امتدت إلى عمل قسري واستغلال لأغراض جنائية وبيع خدمات، وهو ما يتطلب استجابة متعددة الأبعاد.
ثغرات في منظومة الحماية
رغم الإقرار بخطوات إيجابية، مثل تأسيس مأوى متخصص مؤخراً، يشير تقرير اللجنة الوطنية في أيرلندا إلى أن السعة المتاحة لا تكفي، والمأوى المتوافر يستوعب ثمانية أسرّة فقط، وهو رقم ضئيل بالنسبة للحاجة الوطنية، كما أن آلية الإحالة الوطنية، التي تهدف إلى تنظيم طريق التعرف على الضحايا وتقديم الدعم، لم تبدأ عملها عملياً بعد؛ لأن المبادئ التوجيهية التشغيلية لم تُنشر بعد، ما يضع الضحايا في فراغ قانوني وإجرائي، وهناك أيضاً قلق من أثر تطبيق إجراءات سريعة للهجرة واللجوء قد تُقوّض حماية الضحايا، كما حذّرت اللجنة من أن استخدام الاحتجاز ضد أشخاص قد يكونون ضحايا اتجار "غير مناسب إطلاقاً".
التشريعات والتطورات القانونية
شهد الإطار القانوني تطورات مهمة مؤخرًا، أحيث أقرّت تشريعات جنائية، وخضع نظام الإحالة الوطنية لتعديلات تشريعية تهدف إلى تحسين التعرف على الضحايا وتوسيع الجهات القادرة على الإحالة، ومع ذلك، التطبيق العملي يتطلب موارد بشرية وفنية مخصصة، وتدابير تدريب متواصلة للعاملين في الشرطة والخدمات الاجتماعية وتعزيز رقابة العدالة لضمان تحقيق التعويضات والمساءلة، كما دعت التقارير الأوروبية GRETA ومراقبو حقوق الإنسان إلى مزيد من التركيز على استغلال العمالة والجرائم المرتبطة بالأطفال، وإلى تقوية قدرات التفتيش في القطاعات المعرضة للخطر.
ردود فعل المجتمع المدني والمنظمات الدولية
أبدت منظمات حقوقية وطنية ودولية قبولاً مشوباً بالقلق لتلك الخطوات، فقد نادت اللجنة الأيرلندية لحقوق الإنسان بتسريع العمل على آلية الإحالة الوطنية وتوسيع السكن الآمن، في حين دعت منظمات دولية مثل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة والمنظمات المتخصصة إلى تنسيق أفضل للبيانات وإجراءات استباقية لمنع الاستغلال، وطالبت جماعات مدنية متخصصة بتضمين أصوات الناجين في تصميم الخدمات وتوفير حماية خاصة للأطفال الذين يَصِفون أساليب تجنيدهم واستغلالهم، وإلى ذلك كانت تقارير منظمات رقابية أوروبية أيضاً واضحة في توصياتها لتعزيز آليات العدالة ورفع وتيرة التحقيقات والملاحقات.
التداعيات الاجتماعية والإنسانية
فشل النظام في تحديد ضحايا الاتجار وتقديم دعم ملائم يعرضهم لمخاطر نفسية وصحية واقتصادية عميقة، حيث يواجه الضحايا عنفاً متكرراً، وفقدان فرص التعليم والتعرض لأساليب استغلال تؤدي إلى تهميش طويل الأمد، ويعاني الأطفال، بوصفهم الفئة الأكثر هشاشة، بشكل خاص من تبعات انقطاع التعليم وتعرضهم لصدمات نفسية قد تعطل مجرى حياتهم لسنوات، كما أن المجتمع يتحمّل تكلفة اقتصادية وقانونية عالية عندما لا تُعالج الحالات باكراً، فالجريمة المنظمة تستفيد من هذا الفراغ لتعزيز نماذج الربح من الاستغلال.
مقترحات عملية واستراتيجية
تجربة أيرلندا تبرز أن الانتقال من السياسة إلى الحماية يتطلب خمسة عناصر متكاملة، تشمل: نشر آلية إحالة وطنية عاملة ومموّلة، وتوسيع مأوى متخصص وعدم الاقتصار على سعات رمزية، وبرامج تدريب متواصلة للعاملين في الاستجابة الأولى، وتدابير استباقية في القطاعات الاقتصادية عالية المخاطر، وآليات تعاون عبر الحدود مع الشركاء في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما بات واضحاً أن الحماية لا تتحقق دون رصد مستقل وشفاف لنتائج التعرف والدعم ومساءلة الفاعلين المرتكبين للجرائم.
قصة أيرلندا مع الاتجار بالبشر ليست مجرد أرقام وإجراءات قانونية، إنها حكايات بشرية عن أشخاص سرق منهم الأمن والكرامة. والتحسّن في التعرف على الضحايا خلال السنوات الأخيرة مؤشر إيجابي، لكنه ليس بديلاً عن حماية متكاملة تلبي احتياجات الناجين، خصوصاً الأطفال، وبحسب المنظمات الحقوقية والإنسانية فإن اختبار الأجل الطويل لأيرلندا في هذه القضية لن يُقاس بعدد القوانين وحدها، بل بمدى قدرة المجتمع والدولة على إعادة إنسانية الضحايا وفتح طرق لشفائهم واندماجهم.