رهان ميتشل المفقود.. كيف أوقفت إدارة ترامب مشروعاً ثورياً لصناعة الإسمنت النظيفة؟
رهان ميتشل المفقود.. كيف أوقفت إدارة ترامب مشروعاً ثورياً لصناعة الإسمنت النظيفة؟
في قلب بلدة ميتشل الصغيرة بولاية إنديانا، حيث لا يتجاوز عدد سكانها أربعة آلاف نسمة، كان الأمل معقودًا على مشروع صناعي فريد من نوعه، مصنع هايدلبرغ للإسمنت، الذي يُعتبر واحدًا من أهم ركائز الاقتصاد المحلي، كان يستعد لأن يصبح نموذجًا عالميًا في مجال احتجاز الكربون.
وُصف المشروع، الذي حظي بمنحة فيدرالية تبلغ 500 مليون دولار، بأنه نقطة تحول في صناعة تُنتج ما يقارب 8% من الانبعاثات الحرارية على مستوى الكوكب، لكن قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب المفاجئ بإلغاء هذا التمويل ترك المجتمع الجمهوري المحافظ في ذهول.
نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن دون كوديل، عمدة ميتشل، قوله: "كان من المفترض أن يكون هذا مشروعًا تجريبيًا للبلاد بأكملها، جزء مما يُحبطنا هو أن الكثير قد بُذل وأُنفق على هذا المشروع، والآن توقف كل شيء".
كان المشروع سيخلق ألف وظيفة مؤقتة في البناء و36 وظيفة دائمة في المصنع، إضافة إلى استثمارات طويلة الأجل في التكنولوجيا النظيفة، لكن قرار الإلغاء جاء ليضع مستقبل هذه الوعود على المحك، ويثير تساؤلات أوسع حول موقع الولايات المتحدة في سباق عالمي يتسارع نحو صناعة منخفضة الكربون.
التحديات البيئية والتنافس
بحسب ما أوردته "واشنطن بوست"، يشكّل الإسمنت أحد أكبر مصادر الانبعاثات عالميًا، حيث يُسهم بما يصل إلى 8% من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، من هنا، لم يكن مشروع هايدلبرغ في ميتشل مجرد تجربة محلية، بل رهانًا استراتيجيًا على مستقبل صناعة تواجه ضغوطًا هائلة للتكيف مع متطلبات السوق والتنظيمات البيئية الجديدة.
في الولايات المتحدة، ارتفعت نسبة مبيعات الإسمنت منخفض الكربون من 2% فقط في عام 2020 إلى ما يقارب ثلثي السوق خلال سنوات قليلة، وفق ما ذكر شون أونيل، نائب رئيس جمعية الإسمنت الأمريكية، هذه الطفرة تعكس طلبًا متزايدًا من الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى مثل أمازون وغوغل ومايكروسوفت، التي تبني مراكز بيانات ضخمة وتبحث عن بدائل أقل تلوثًا لتقليل بصمتها الكربونية.
منح قرار الإدارة الأمريكية بوقف المنح المخصصة لمثل هذه المشاريع منافسين مثل الصين أفضلية واضحة، فقد أشار أندريس كلارينس، أستاذ الهندسة بجامعة فيرجينيا، إلى أن "معدل تطوير الصين لمنتجات المستقبل في هذا القطاع مذهل، بينما الولايات المتحدة تتراجع بقرارات كهذه".
تفاصيل قرار الإلغاء وأبعاده
أوضح تقرير "واشنطن بوست" أن وزارة الطاقة الأمريكية أنهت المشروع في مايو بشكل مفاجئ، معتبرة أن احتجاز الكربون في صناعة الإسمنت "لا يلبي أهداف أو أولويات الوزارة والإدارة".
وبرّر الخطاب الرسمي القرار بتكاليف مرتفعة لنقل الكربون المضغوط، رغم أن المصنع في ميتشل كان يمتلك ميزة جيولوجية نادرة تسمح بدفن الانبعاثات مباشرة في الموقع دون الحاجة إلى خطوط أنابيب طويلة.
أثارت هذه الحجة حيرة مسؤولي هايدلبرغ، إذ إن الموقع كان مؤهلاً تمامًا لتجاوز أبرز التحديات التقنية، ووفقًا لما ذكره ديفيد بيركنز، نائب رئيس هايدلبرغ أمريكا الشمالية، فإن الوزارة لم تُبدِ "فهمًا عميقًا للمشروع".
كما لم يكن مصنع هايدلبرغ الوحيد المتضرر، خسرت شركة "ناشيونال سيمنت" في كاليفورنيا أيضًا منحة مماثلة بقيمة 500 مليون دولار، كانت مخصصة لتجربة تقنية مبتكرة لإنتاج "كلنكر" منخفض الانبعاثات عبر استبدال جزء من الحجر الجيري بالطين، هذه التقنية، بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، قادرة على خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 40%.
خسارة مضاعفة
لم تكن التداعيات محصورة في الجانب البيئي فحسب، بل طالت المجتمع المحلي بشكل مباشر، فالمشروع الملغى كان سيضمن فرص عمل جديدة ويؤمن مستقبل المصنع الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمن.
عبّر رئيس نقابة عمال الصلب المتحدة المحلية في ميتشل، دوغ دنكان، عن مشاعر الإحباط بقوله لـ"واشنطن بوست": "يشعر الناس كأنهم طعنوا في الظهر.. كان هذا استثمارًا في المستقبل البعيد لهذا المصنع وصناعة الإسمنت.. كان سيسمح لنا باحتجاز مليوني طن من الكربون.. أما الآن، فإن هذا المستقبل غير مؤكد".
ويُلقي قرار الإلغاء بظلاله على جهود الولايات المتحدة لمواكبة التحولات الأوروبية، ففي أوروبا، تُفرض قيود صارمة على بيع الإسمنت الملوث، ما يضع ضغطًا إضافيًا على الشركات الأمريكية لمجاراة المعايير الدولية، وهنا تكمن الخطورة: في الوقت الذي تنسحب فيه الولايات المتحدة من مشاريع كبرى، تُعزز الصين من استثماراتها، لتستحوذ على الريادة في قطاع يشكل أساسًا للبنية التحتية العالمية.
مشهد يعكس صراعًا عالميًا
توضح "واشنطن بوست" أن هذه ليست مجرد قضية محلية في بلدة صغيرة بإنديانا، بل مشهد يعكس صراعًا عالميًا أوسع، الولايات المتحدة والصين تتنافسان على تطوير تقنيات صناعة الإسمنت منخفض الكربون، وهو قطاع تتوقع الأسواق أن يكون من الأعمدة الرئيسية للانتقال الأخضر عالميًا.
يتزايد الطلب على الإسمنت الأخضر بوتيرة سريعة، مع دخول اتفاقيات دولية تُلزم الحكومات بشراء منتجات أقل تلويثًا، إلى جانب توجه إدارات النقل في الولايات المتحدة إلى تغيير مشترياتها نحو بدائل منخفضة الكربون.
لكن في ظل قرارات الإلغاء، تُعطي واشنطن فرصة ذهبية لمنافسيها، كما أشار أونيل من جمعية الإسمنت الأمريكية، فإن هذه المشاريع لا تُنتج فقط تقنيات للتصدير، بل توفر أيضًا قاعدة معرفية تخدم قطاع الطاقة الأوسع، وهو ما يعني أن خسارتها ليست اقتصادية فحسب، بل استراتيجية.