من القصف للإعدام الميداني.. كيف تحولت الحرب في السودان إلى كارثة إنسانية؟
من القصف للإعدام الميداني.. كيف تحولت الحرب في السودان إلى كارثة إنسانية؟
أظهر تقرير صادر حديثاً عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن النزاع المسلح في السودان تفاقم بشكل خطِر خلال النصف الأول من العام، مع ارتفاع كبير في عدد قتلى المدنيين واندلاع موجات عنف طائفي وإثني أدت إلى تدهور حاد في الأوضاع الإنسانية، ووثق التقرير آلاف الضحايا وهجمات على مناطق مدنية ومخيمات نزوح، ويضيء على نمط متكرر من عمليات الإعدام خارج نطاق القانون واستخدام الأسلحة الثقيلة في مناطق مأهولة بالمدنيين.
بين الأول من يناير والثلاثين من يونيو وثّق مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مقتل ما لا يقل عن 3,384 مدنياً في سياق النزاع السوداني، غالبيتهم في دارفور، وهو رقم يعادل نحو ثمانين بالمئة من ضحايا العام السابق، في حين ارتبطت معظم هذه الوفيات بالعمليات القتالية والمدفعية والغارات الجوية والطائرات المسيرة، ويؤكد التقرير أيضاً وقوع ما لا يقل عن 990 حالة قتل خارج نطاق المعارك، تشمل إعدامات ميدانية وتصفيات انتقامية تزايدت بشكل ملحوظ في فترات استعادة السيطرة على أراضٍ متنازع عليها.
السبب والخلفية السياسية
الجذور الفورية للأزمة السودانية تعود إلى القتال الذي اندلع بين القوات المسلحة السودانية والقوات شبه العسكرية المعروفة بقوات الدعم السريع منذ أبريل 2023، في نزاع اتسع ليشمل صراعات أهلية وإثنية محلية، لكن السياق الأعم يتضمن تراكمات تاريخية من التهميش والتمييز بين مجموعات إثنية وإقليمية في السودان، وضعف مؤسسات الدولة، وانتشار مسلحين وتهريب للأسلحة، ما سهّل تحول الخلاف السياسي إلى عنف مسلح قائِم على أسس الهوية.
التقرير الأممي يوثّق أن ثلثي الضحايا سقطوا أثناء أعمال قتالية في مناطق مأهولة، وأن أجزاءً كبيرة من العنف اتخذت طابعاً إثنياً أو انتقامياً من خلال هجمات على أسواق ومخيمات للنازحين، عمليات إعدام ميدانية، واستخدام العنف الجنسي أداة حرب، كذلك وثّق التقرير استهداف بنى تحتية حيوية كالمرافق الصحية ومصادر المياه والقوافل الإنسانية، ما أدى إلى تفاقم أزمات الغذاء والمرض ونزوح الملايين داخل وخارج السودان.
النزاع دفع السودان إلى أن يكون أحد أكبر الأزمات الإنسانية في العالم: نحو 24.6 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، وملايين آخرون بلا مياه وصرف صحي آمن، مع استمرار تفشّي وباء الكوليرا في ظروف تعوق الاستجابة الصحية والوقائية، كما أدت العمليات العسكرية والحصار إلى عرقلة وصول المساعدات وإغلاق طرق الإمداد إلى مدن محاصرة، ما جعل السيناريو الأسوأ ممكناً في مناطق مثل الفاشر زمزم وأبو شوك وفق برنامج الأغذية العالمي.
انتهاك القوانين الدولية
الاستهداف المتعمد للمدنيين، والإعدامات خارج نطاق القانون، والعنف الجنسي المرتبط بالنزاع في السودان تشكّل انتهاكات صريحة للقانون الدولي الإنساني وللاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وقد ترقى في بعض الحالات إلى مستوى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ويدعو الإطار القانوني الدولي إلى حماية المدنيين وفتح تحقيقات فعّالة ومستقلة، ومحاسبة المسؤولين، وحض مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان على ضرورة مساءلة مرتكبي الانتهاكات لإيقاف دورة الإفلات من العقاب التي تغذي استمرار العنف.
استجابة للتقرير، أصدرت منظمات دولية ومحلية بيانات استنكار ودعوات للتحقيق الفوري، بما في ذلك مطالب بتمديد ولايات بعثات التحقيق وجمع الأدلة وحذرت منظمات حقوقية منذ مدة من موجات الإبادة والتمييز العرقي في بعض مناطق دارفور، ودعت إلى إجراءات دولية قوية لحماية المدنيين وتعزيز وصول المساعدات، كما أكدت مؤسسات دولية إنسانية أن استمرار الهجمات على البنية المدنية يعرقل عمل المنظمات ويعرّض العاملين في الحقل للخطر، بعد تسجيل سقوط عشرات القتلى من العاملين الطبيين والإنسانيين خلال فترات القتال.
إجراءات فورية يطالب بها المجتمع الحقوقي تتضمن فتح تحقيقات مستقلة ومحايدة، حماية شهود العيان، توثيق الأدلة بصورة معيارية، وتنسيق جهود جمع المعلومات مع آليات الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، وعلى الصعيد الدبلوماسي، يُطلب تكثيف الضغوط لوقف الهجمات على المدنيين وتأمين ممرات آمنة لإيصال المساعدات، كما تدعو منظمات إلى فرض قيود على تسليح الأطراف المتحاربة وفرض عقوبات على من يثبت تورطه في جرائم جسيمة، وهذه سبل قابلة للتفعيل لكنها تتطلب إرادة سياسية دولية موحّدة.
الإفلات من العقاب
يحذر التقرير ومن ثم المنظمات الحقوقية من أن الإفلات من العقاب وانتشار خطاب التحريض يعززان منطق الانتقام والتمييز، ما يمدّد دائرة العنف ويعمّق الانقسام المجتمعي، وفي غياب تدخل دولي فعال يوفر حماية فورية ومدى أوسع للمساءلة، ستستمر معاناة المدنيين وتترسّخ جراح اجتماعية يصعب علاجها بعد انتهاء القتال.
تقرير مفوضية حقوق الإنسان يرسم صورة قاسية لمسار النزاع في السودان تتضمن قتل جماعي، وعنف طائفي متصاعد، وتدمير للمقوّمات الأساسية للحياة، وتهديد بحلول مجاعة أوسع. المجتمع الدولي أمام اختبار عملي: إما أن يترجم التنديد إلى إجراءات ملموسة لحماية المدنيين وتقديم المساعدات ومقاضاة الجناة، وإما أن يتحمل عبء تحوّل الأزمة إلى فجيعة إنسانية لا حدود لها.