"خيانة الجيل القادم".. العدالة المناخية حق يتعرض للتجريف في عهد ترامب

"خيانة الجيل القادم".. العدالة المناخية حق يتعرض للتجريف في عهد ترامب
المناخ العالمي- أرشيف

في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وأسبوع المناخ العالمي، بدا المشهد معقدًا وحافلاً بالتناقضات: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يصف تغيّر المناخ بأنه "أكبر عملية احتيال في التاريخ"، بينما يجتمع قادة الأعمال، النشطاء، والمسؤولون الدوليون للدفاع عن مستقبل بيئي أكثر استدامة.

لكن خلف هذا التناقض، تتكشف أزمة أعمق: إعادة صياغة الحركة البيئية الأمريكية لخطابها في ظل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وتحولها من التركيز على "إنقاذ الكوكب" إلى التركيز على  ارتفاع تكاليف الطاقة كمدخل جديد لاستقطاب الرأي العام.

بحسب تقرير نشرته "فايننشال تايمز"، اليوم الأحد، فإن المنظمات المناخية لم تعد تكتفي بالحديث عن أخطار الاحتباس الحراري أو الانبعاثات الكربونية، بل وضعت نصب أعينها نقطة ضعف إدارة ترامب: التكلفة الباهظة للطاقة.

وحذّر الرئيس التنفيذي لمجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية، مانيش بابنا، من أن إلغاء الحوافز التي أقرها بايدن في مجال الطاقة النظيفة سيؤدي إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار الكهرباء، وفي هذا الطرح، لا تعود الطاقة المتجددة مجرد خيار بيئي، بل تصبح أداة لحماية الأسر الأمريكية من أعباء مالية خانقة.

وفي المقابل، يصرّ ترامب ووزير طاقته كريس رايت على تحميل الطاقة الشمسية والرياح مسؤولية ارتفاع الأسعار، حيث تصف تصريحاتهم الطاقة الشمسية بأنها "طفيلي" على الشبكة الكهربائية، غير قادر على تلبية احتياجات بلد صناعي بحجم الولايات المتحدة، وهكذا، تتحول الطاقة المتجددة إلى ساحة صراع سياسي بامتياز، حيث تُستغل أزمة القدرة على تحمّل التكاليف كسلاح ضد أو لصالح سياسات المناخ.

انقسام داخل الحركة الخضراء

لكن التحدي الأكبر للحركة البيئية لا يأتي فقط من البيت الأبيض، كما أوضح تقرير نشرته صحيفة "بوليتيكو"، حيث تعيش هذه الحركة لحظة انقسام داخلي عميق، هناك تيار يرى ضرورة ربط النضال المناخي بمعركة أوسع ضد سلطة المليارديرات وهيمنة رأس المال، في تحالف مع شخصيات مثل بيرني ساندرز وأوكاسيو كورتيز، وتيار آخر يفضل الاستمرار في خطاب اقتصادي - بيئي يربط بين الوظائف، النمو الأخضر، وتكاليف الطاقة المنخفضة.

هذا الانقسام يعكس أزمة هوية: هل المعركة البيئية قضية كوكبية منفصلة أم جزء من نضال اجتماعي- اقتصادي أشمل ضد عدم المساواة؟ بينما يسارع ترامب إلى تفكيك القوانين البيئية التي استغرقت عقودًا من النضال، يجد دعاة المناخ أنفسهم مضطرين للاختيار بين تكتيكات جديدة: احتجاجات جماهيرية في الشوارع، أم تحالفات محلية تركز على التشريعات على مستوى الولايات؟

ومن زاوية حقوقية، يتجاوز الأمر مسألة البيئة والطاقة إلى قضايا أساسية تتعلق بـ الحق في بيئة صحية و الحق في الطاقة الميسورة، فعندما تُلغى حوافز الطاقة الشمسية والرياح، فإن الأسر محدودة الدخل هي التي تتحمل فاتورة الكهرباء الأعلى، وعندما تُبطئ واشنطن خططها في مواجهة التغير المناخي، فإن المجتمعات الأكثر هشاشة –سواء في الولايات الساحلية المهددة بالفيضانات أو في الدول النامية التي تعاني من الجفاف والحرائق– تدفع الثمن الأكبر.

كما أن تعهد ترامب بمراجعة أو حتى قمع المنظمات غير الربحية البيئية يثير مخاوف حقوقية خطيرة، إذ يُنظر إليه كتهديد لحرية التنظيم وحرية التعبير، وهنا، تصبح معركة المناخ أيضًا معركة للدفاع عن فضاء مدني مفتوح، وعن حق الحركات الاجتماعية في العمل بحرية.

التراجع عن الطاقة الشمسية

وفقًا لتقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، رغم أن الطاقة الشمسية شكّلت معظم الإضافات الجديدة لشبكة الكهرباء الأمريكية العام الماضي، فإن إدارة ترامب لا ترى فيها مستقبلًا موثوقًا، هذا الموقف يجعل الولايات المتحدة حالة "شاذة"، كما وصفها خبير الطاقة في جامعة هارفارد، روبرت ستافينز، مقارنة بالاتحاد الأوروبي أو الصين أو البرازيل التي تمضي قدمًا في الاستثمار في الطاقة المتجددة.

ولا تكتفي إدارة ترامب برفض الطاقة الشمسية على المستوى الخطابي، بل تترجم ذلك إلى سياسات ملموسة: إلغاء الإعفاءات الضريبية، تقييد استخدام الأراضي الفيدرالية لمشاريع الطاقة النظيفة، وفرض تعريفات جمركية على الواردات من الصين وجنوب شرق آسيا، هذه الخطوات تهدد، بحسب تقديرات شركة "وود ماكنزي"، بخفض منشآت الطاقة الشمسية بنسبة 18% خلال السنوات الخمس المقبلة.

بينما تتراجع واشنطن، تستغل قوى دولية أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي الفرصة لتعزيز ريادتها في سوق الطاقة المتجددة، وفي الوقت نفسه، يظهر انقسام عالمي: دول كثيرة تقدمت بخطط مناخية جديدة للأمم المتحدة، بينما تظل دول كبرى مثل الهند مترددة.

هكذا تتقاطع السياسة الداخلية الأمريكية مع التزامات دولية أوسع، وإذا كان لترامب أن يصف سياسات المناخ بأنها "احتيال"، فإن دولًا أخرى تصف التخلي عنها بأنه خيانة للجيل القادم وتهديد مباشر لحقوق الإنسان على مستوى عالمي.

الحركات الشعبية

أمام هذا الواقع، تسعى الحركات البيئية في الولايات المتحدة إلى إعادة اختراع نفسها، لم يعد الحشد الجماهيري الضخم كما كان في "مسيرة النساء" عام 2017 هو الخيار الاستراتيجي، بدلاً من ذلك، تتجه نحو احتجاجات أصغر وأكثر انتشارًا محليًا، مع تعزيز حضورها الرقمي لمواجهة الحملات المحافظة على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن هذه الاستراتيجيات لا تخلو من المخاطر: من تهديدات بملاحقة قانونية، مثل قضية "غرينبيس" التي تواجه حكمًا بقيمة 660 مليون دولار، إلى احتمالات إلغاء الإعفاءات الضريبية التي قد تخنق مواردها المالية.

ومع ذلك، فإن روح المقاومة لا تزال قائمة، كما جسدتها مسيرة "اجعلوا المليارديرات يدفعون"، حيث امتزجت قضايا المناخ مع قضايا العدالة الاقتصادية والاجتماعية.

معركة المناخ

ما يتكشف اليوم في الولايات المتحدة ليس مجرد جدل حول الطاقة الشمسية أو تكاليف الكهرباء، بل هو صراع على اتجاه الديمقراطية الأمريكية نفسها، فبين إدارة ترى أن الوقود الأحفوري هو الطريق إلى "القوة" والهيمنة، وحركات ترى أن العدالة المناخية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعدالة الاجتماعية، يقف مستقبل المناخ على المحك.

وتجمع تقارير "فايننشال تايمز" و"بوليتيكو" و"واشنطن بوست"، على أن المعركة البيئية لم تعد ترفًا فكريًا، بل أصبحت مسألة حقوق إنسان أساسية: الحق في بيئة نظيفة، في طاقة ميسورة، في صوت مسموع ضمن فضاء مدني مفتوح. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية