اعتقال مهدي أنصاري.. جرس إنذار يعيد الأضواء حول أزمة حرية الصحافة في أفغانستان
اعتقال مهدي أنصاري.. جرس إنذار يعيد الأضواء حول أزمة حرية الصحافة في أفغانستان
منذ عودة حركة طالبان إلى الحكم في أغسطس 2021، تواجه حرية الصحافة في أفغانستان واحدة من أعقد وأخطر مراحلها التاريخية، وجاءت قضية الصحفي مهدي أنصاري، الذي اعتقلته أجهزة الاستخبارات التابعة للحركة في كابل وحُكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف العام بعد محاكمة وُصفت بأنها غير عادلة، لتجسد بوضوح حالة القمع التي يعيشها الإعلاميون في البلاد، فقد بثّت صفحات مرتبطة بطالبان مقطع فيديو يُظهر اعترافاً قسرياً للصحفي، اعتُبر دليلاً على استخدام أساليب الضغط والترهيب لإسكات الأصوات المستقلة.
اعتقال مهدي أنصاري نموذج للترهيب
منظمة العفو الدولية وصفت قضية أنصاري بأنها انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني، بحسب ما أوردته شبكة "أفغانستان إنترناشيونال" الأحد، مؤكدة أنّ الصحفي احتُجز تعسفياً وحُرم من محاكمة عادلة، وجرى استخدام اعترافات انتُزعت تحت الضغط لتبرير سجنه.
وطالبت المنظمة بالإفراج الفوري عنه دون شروط، مع ضمان حصوله على الرعاية الصحية وإتاحة التواصل مع محامٍ مستقل وأسرته.
أما مركز الصحفيين الأفغان فقد أدان نشر الاعتراف القسري، واعتبره "انتهاكاً صارخاً لمبادئ المحاكمة العادلة وحقوق الصحفيين"، وهذه الإدانات ليست مجرد موقف حقوقي، بل تكشف عن صورة قاتمة يعيشها الإعلام في أفغانستان، حيث يُلاحق الصحفيون لمجرد ممارسة عملهم المهني.
من وعود الاعتدال إلى واقع القمع
عند عودتها إلى السلطة، سعت حركة طالبان إلى طمأنة المجتمع الدولي بأنّها ستتبنى نهجاً أكثر اعتدالاً مقارنة بفترة حكمها السابقة بين عامي 1996 و2001، لكن الوقائع على الأرض سرعان ما كشفت اتجاهاً معاكسا.
تقارير منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش ولجنة حماية الصحفيين (CPJ) أكدت أنّ الحركة سرّحت مئات الصحفيين من عملهم، وأغلقت عشرات الوسائل الإعلامية، وفرضت قيوداً واسعة على محتوى النشر، خصوصاً المتعلق بحقوق النساء والفساد والانتهاكات الأمنية.
إحصاءات صادرة عن "رابطة الصحفيين الأحرار في أفغانستان" تشير إلى أنّ أكثر من 200 وسيلة إعلامية توقفت عن العمل منذ أغسطس 2021، فيما غادر مئات الصحفيين البلاد خوفاً من الملاحقة، هذه الأرقام تعكس انهياراً متسارعاً لبنية الإعلام المستقل، وتحول المشهد الإعلامي إلى مساحة خاضعة للرقابة الشديدة والرقابة الذاتية المفروضة بالقوة.
الاعترافات القسرية كأداة سياسية
بثّ فيديو اعتراف مهدي أنصاري لم يكن حدثاً عابراً، بل يعكس نمطاً متكرراً تستخدمه طالبان لتخويف الصحفيين، فالتشهير العلني بالصحفيين عبر اعترافات تُنتزع تحت الضغط يهدف إلى كسر الثقة بين الإعلام والجمهور، وتجريم أي محاولة لنقد السلطة، وأكدت منظمات حقوقية دولية أنّ هذه الممارسات تُعدّ شكلاً من أشكال التعذيب النفسي، وتنتهك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي وقعت عليه أفغانستان.
ردود فعل المنظمات الدولية
أصدرت منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ولجنة حماية الصحفيين بيانات متكررة تندد بسياسات طالبان تجاه الإعلام، كما دعا مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في أفغانستان إلى وضع آليات مراقبة دولية أكثر صرامة، محذراً من أنّ قمع الإعلام يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية والأمنية.
الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أشارا بدورهما في تقارير رسمية إلى أنّ البيئة الإعلامية في أفغانستان "أصبحت واحدة من الأسوأ عالمياً"، لكن الانتقادات الدولية لم تترجم إلى إجراءات عملية فعّالة، ما جعل الصحفيين في الداخل يواجهون مصيرهم وحدهم.
البعد الإنساني للأزمة
قمع الإعلام في أفغانستان لا يقتصر على اعتقال الصحفيين، بل يرتبط مباشرة بحقوق ملايين المواطنين، فالصحافة المستقلة كانت ولا تزال أداة لنقل معاناة الناس من الفقر، والجوع، والحرمان من التعليم والصحة، خصوصاً النساء والفئات الهشة، ويعني إضعاف الإعلام يعني إسكات صوت المجتمعات المحلية، وإخفاء الانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون، وهو ما يزيد من هشاشة الوضع الإنساني في بلد يعيش أزمات معقدة.
تاريخياً، عرفت أفغانستان فترات متقطعة من الحرية الإعلامية، خصوصاً بعد عام 2001 مع دعم المجتمع الدولي لوسائل الإعلام المستقلة، غير أنّ هذه المكاسب تراجعت تدريجياً حتى انهارت بالكامل بعد 2021، اليوم، يرى محللون أن الوضع الحالي يعيد البلاد إلى حقبة التسعينيات، حين كان الإعلام شبه غائب تحت حكم طالبان الأول.
القانون الدولي ومسؤوليات المجتمع الدولي
القانون الدولي لحقوق الإنسان يضمن حرية التعبير وحرية الإعلام كحقوق أساسية، وينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنّ هذه الحقوق لا يمكن تقييدها إلا بشروط ضيقة ومؤقتة، في حالة أفغانستان، تؤكد المنظمات الحقوقية أنّ القيود المفروضة تتجاوز هذه الحدود بكثير، وتشكل انتهاكاً ممنهجاً للقانون الدولي.
من جهة أخرى، يواجه المجتمع الدولي تساؤلات حول مدى التزامه بحماية الصحفيين الأفغان، في ظل غياب أدوات ضغط فعّالة على طالبان. فالبيانات وحدها لم تعد كافية، والواقع على الأرض يزداد قتامة.
نحو مستقبل غامض
بين الاعتقالات التعسفية، وإغلاق المؤسسات الإعلامية، والخوف الدائم من الانتقام، يبدو أنّ مستقبل حرية الصحافة في أفغانستان يواجه نفقاً مظلماً، بحسب مراقبين، فقضية مهدي أنصاري ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات، لكنها تعكس جوهر المأساة: صحفيون يدفعون ثمن التزامهم بنقل الحقيقة، في بيئة تحوّلت فيها الكلمة الحرة إلى جريمة.
استمرار الوضع على هذا النحو يهدد بتجريف المشهد الإعلامي كلياً، وحرمان الأجيال المقبلة من أي مساحة للتعبير أو المساءلة، ومع غياب الإرادة الدولية لفرض التزامات واضحة على طالبان، يظل الإعلام الأفغاني مهدداً بالاختفاء التدريجي، في واحدة من أكبر النكسات لحرية الصحافة عالمياً خلال العقد الأخير.