اليوم العالمي للعمل اللائق.. من شعار الكرامة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية

اليوم العالمي للعمل اللائق.. من شعار الكرامة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية
عمال في أحد مشروعات البناء - أرشيف

يحتفل العالم في السابع من أكتوبر من كل عام بـ"اليوم العالمي للعمل اللائق"، وهو مناسبة أممية أطلقتها منظمة العمل الدولية عام 2008 لتجديد الالتزام العالمي بحق كل إنسان في عمل يضمن الكرامة والأمان والعدالة، ويأتي هذا اليوم ليؤكد أن العمل ليس مجرد وسيلة للعيش، بل ركيزة أساسية للكرامة الإنسانية والتنمية المستدامة والاستقرار الاجتماعي. 

في عالم تتزايد فيه الأزمات الاقتصادية والحروب والنزاعات والكوارث المناخية، تكتسب الدعوة إلى "العمل اللائق" بعداً إنسانياً واقتصادياً واجتماعياً متجدداً.

ومنذ أن تبنّت منظمة العمل الدولية مفهوم "العمل اللائق"، حُددت أربعة أركان أساسية تشكل جوهر هذا المبدأ: خلق فرص عمل منتجة، ضمان الحقوق في مكان العمل، توسيع الحماية الاجتماعية، وتعزيز الحوار الاجتماعي بين العمال وأصحاب العمل والحكومات، وهذه الأركان لا تعني فقط تحسين ظروف العمل، بل بناء مجتمعات أكثر عدلاً واستقراراً، فالعمل اللائق هو محور التنمية البشرية، وهو ما يربط النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية وفق منظمة العمل الدولية.

أصل الفكرة

يعود أصل الفكرة إلى مطلع الألفية، حين أدركت الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية أن العولمة، رغم ما أتاحته من فرص اقتصادية، أنتجت في الوقت نفسه تفاوتات عميقة في الدخل، وتراجُعاً في الأمان الوظيفي، واتساعاً في فجوة الأجور بين الجنسين، وتدهوراً في ظروف العمالة غير الرسمية. ومن هنا، جاء القرار بتخصيص يوم عالمي يُذكّر بأن التنمية الحقيقية لا تُقاس بمعدلات الناتج المحلي الإجمالي فحسب، بل بمدى احترام كرامة الإنسان العامل وحقوقه الأساسية.

يركّز اليوم العالمي للعمل اللائق هذا العام على شعار "العدالة الاجتماعية من أجل اقتصاد عادل"، في ظل تصاعد البطالة وعدم الاستقرار في الوظائف حول العالم، خصوصاً بعد التبعات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19، والحروب المتلاحقة، والأزمات المناخية التي تسببت في تدمير سبل عيش ملايين الناس.

وفق تقديرات منظمة العمل الدولية، فهناك أكثر من 200 مليون شخص حول العالم يبحثون عن عمل، في حين يعيش نحو نصف العاملين في العالم في ظروف عمل غير مستقرة أو دون حماية اجتماعية كافية، وتشير البيانات إلى أن نحو 4 مليارات شخص حول العالم لا يحصلون على أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، ما يجعلهم عرضة للفقر بمجرد فقدان وظائفهم.

على الصعيد الاجتماعي، يؤكد مفهوم “العمل اللائق” أن العدالة لا تكتمل إلا بتمكين المرأة من الوصول المتكافئ إلى سوق العمل. ولا تزال النساء، بحسب تقارير الأمم المتحدة، يحصلن على أجور أقل بنسبة 20 في المئة في المتوسط مقارنة بالرجال، رغم أدائهن أدواراً مماثلة. كما أن العديد من النساء العاملات، خاصة في القطاعات غير الرسمية، يواجهن حرماناً من التأمين الصحي والإجازات مدفوعة الأجر، ما يعمّق دوائر الفقر والهشاشة الاجتماعية.

تحديات اقتصادية

أما في الدول النامية، فالتحدي الأكبر يكمن في تحويل الاقتصاد غير الرسمي إلى اقتصاد منظم يضمن الحماية القانونية للعاملين. إذ تشير الإحصاءات إلى أن نحو 60 في المئة من القوى العاملة في العالم تعمل في الاقتصاد غير الرسمي، ما يعني غياب الأمان الوظيفي، وضعف الأجور، وغياب الحقوق النقابية، وهذه الأوضاع ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل هي أزمة إنسانية تمسّ الحق في الحياة الكريمة والأمان الاجتماعي.

وفي هذا اليوم، تنشط النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني في تنظيم مسيرات وندوات ومؤتمرات حول العالم للمطالبة بتحسين الأجور، وضمان المساواة، وتوفير بيئة عمل آمنة وصحية، كما تُطلق منظمة العمل الدولية بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية حملات توعية على وسائل الإعلام ومنصاتها الرقمية لتسليط الضوء على الانتهاكات العمالية المنتشرة في العديد من الدول، من عمالة الأطفال إلى العمل القسري والاتجار بالبشر، وتُعد هذه الممارسات انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وللاتفاقيات الأساسية التي تحظر استغلال الإنسان في العمل.

أهداف التنمية المستدامة

تؤكد منظمة العمل الدولية أن العمل اللائق يرتبط بشكل مباشر بأهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة لعام 2030، وبخاصة الهدف الثامن الذي ينص على "تعزيز النمو الاقتصادي الشامل والمستدام وتوفير العمل اللائق للجميع". فالعمل اللائق لا يعني فقط القضاء على الفقر، بل هو شرط لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة وبناء مجتمعات أكثر تماسكاً. وتعد المنظمة أن الاستثمار في العمل اللائق هو استثمار في الاستقرار الاجتماعي والسياسي أيضاً، إذ إن البطالة وانعدام الأمان الوظيفي يغذيان التوترات والصراعات ويقوضان الثقة في المؤسسات العامة.

في المقابل، شهدت السنوات الأخيرة تحديات جديدة أمام تحقيق هذا الهدف، منها توسّع العمل عبر المنصات الرقمية والاقتصاد الحر، حيث يواجه العمال الذين يعملون عبر التطبيقات صعوبات في الحصول على حقوقهم الأساسية؛ مثل التأمين الصحي أو الإجازات المرضية، وقد دفع ذلك منظمة العمل الدولية إلى تطوير أطر قانونية جديدة تراعي هذه المتغيرات وتضمن ألا تكون التكنولوجيا أداة لاستغلال العمال، بل وسيلة لتحسين حياتهم.

كما برزت دعوات دولية متزايدة لتعزيز "الانتقال العادل" نحو الاقتصاد الأخضر؛ أي ضمان أن التحول نحو الطاقات المتجددة لا يترك العمال في الصناعات التقليدية دون بدائل عمل أو حماية. فمكافحة تغير المناخ، كما يشير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع العدالة الاجتماعية، إذ لا يمكن بناء مستقبل مستدام على حساب العمال وأسرهم.

حقوق المهاجرين

في سياق متصل، تشدد المنظمات الحقوقية على أن مفهوم العمل اللائق يمتد ليشمل حقوق المهاجرين الذين يشكّلون جزءاً مهماً من القوى العاملة في العديد من الاقتصادات، وغالباً ما يواجهون التمييز وسوء المعاملة، وتدعو هذه المنظمات إلى ضمان تطبيق معايير العمل الدولية عليهم دون تمييز، ومنها الحق في التنظيم النقابي واللجوء إلى العدالة في حال تعرضهم لانتهاكات.

على مستوى الدول العربية، تشهد العديد من البلدان جهوداً متزايدة لتحسين شروط العمل، مثل إدخال إصلاحات في قوانين العمل وزيادة الحد الأدنى للأجور وتوسيع مظلة الضمان الاجتماعي، غير أن الطريق لا يزال طويلاً، في ظل ارتفاع نسب البطالة بين الشباب، خاصة في صفوف النساء، وازدياد العمالة غير المنتظمة، وتعد منظمة العمل العربية اليوم العالمي للعمل اللائق فرصة لتسليط الضوء على الحاجة إلى إصلاحات هيكلية تحقق التوازن بين متطلبات السوق وحقوق الإنسان.

في نهاية المطاف، يذكّر هذا اليوم العالم بأن العمل ليس سلعة، بل حق أساسي لكل إنسان، فالكرامة الإنسانية لا تكتمل إلا حين يشعر العامل بأن جهده مقدّر، وأنه يعمل في بيئة آمنة تحترم حقوقه وتؤمّن له دخلاً كافياً يعيش به بكرامة، والاحتفاء بالعمل اللائق ليس مجرد مناسبة رمزية، بل هو دعوة لتجديد العهد مع المبادئ التي قامت عليها منظمة العمل الدولية، منذ أكثر من قرن، ممثلة في العدالة الاجتماعية، والمساواة، والتعاون من أجل مستقبل إنساني أكثر إنصافاً واستدامة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية