أزمة الضرائب في سريلانكا.. سياسات غير عادلة تُعمّق الفقر وتُضعف التعليم

أزمة الضرائب في سريلانكا.. سياسات غير عادلة تُعمّق الفقر وتُضعف التعليم
معلمون في سريلانكا يطالبون بتخفيف الأعباء

في بلدٍ كان يُعتبر ذات يوم نموذجًا للنهضة الاجتماعية والتعليمية في جنوب آسيا، تحوّلت سريلانكا إلى ساحة لأزمة اقتصادية وإنسانية عميقة تُغذّيها سياسات ضريبية ومالية غير عادلة، كشف تقرير جديد لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أن السياسات الضريبية المتبعة في البلاد كانت عاملاً محوريًا في الانهيار المالي الذي شهدته سريلانكا عام 2022، وتسببت في إضعاف تمويل التعليم والخدمات العامة، مما عمّق الفجوة بين الأغنياء والفقراء وهدّد الحقوق الأساسية للملايين.

التقرير، الصادر بعنوان "الإعفاءات الضريبية والمدارس المتعثرة: كيف أدّت الضرائب المنخفضة إلى الأزمة الاقتصادية في سريلانكا وأهدرت ريادة التعليم"، يرصد بدقة علاقة التراجع المالي بالتفاوت الاجتماعي، ويوثّق كيف أصبحت السياسات الاقتصادية أداة لتكريس اللامساواة بدلًا من معالجتها.

أزمة نتيجة تراكمات

تشير "هيومن رايتس ووتش" إلى أن الأزمة الحالية في سريلانكا ليست وليدة السنوات الأخيرة فحسب، بل هي نتيجة تراكمات تمتد إلى عقود، فمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، بدأت الحكومات المتعاقبة في تطبيق سياسات تحرير اقتصادي شملت خفض الضرائب على الشركات والأثرياء، مقابل تحميل الطبقات الفقيرة العبء الأكبر من خلال الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات، وتعتبر هذه الضرائب، التي تشكل اليوم نحو 80% من إجمالي الإيرادات الضريبية، تنازلية بطبيعتها لأنها تقتطع نسبة أعلى من دخول الفقراء مقارنة بالأثرياء.

بحسب بيانات المنظمة، تراجعت نسبة الإنفاق على التعليم من 5% من الناتج المحلي الإجمالي في ستينيات القرن الماضي إلى 1.5% فقط في عام 2022، وهي من أدنى النسب عالميًا، ومع انهيار التمويل، فقدت المدارس الحكومية قدرتها على توفير الموارد الأساسية، واضطرت آلاف الأسر إلى دفع رسوم لتغطية نفقات التعليم أو اللجوء إلى الدروس الخاصة، ما جعل الحق في التعليم رهين القدرة المالية.

تقول سوسيكالا، عاملة منزلية من منطقة مزارع الشاي في هاتون، إنها تكافح لتوفير متطلبات تعليم طفليها رغم عملها سبعة أيام في الأسبوع، بدخل لا يتجاوز 46 دولارًا شهريًا، تضطر لإنفاق ما يقارب نصفه على رسوم التعليم الإضافية، وتجسد قصتها معاناة آلاف الأسر التي وجدت نفسها بين مطرقة الغلاء وسندان الضرائب التنازلية.

في عام 2019، زادت الأزمة تعقيدًا حين قرر الرئيس السابق غوتابايا راجاباكسا تنفيذ تخفيضات ضريبية واسعة النطاق، ما أدى إلى تراجع الإيرادات الحكومية بنحو الثلث، وفاقم عجز الميزانية، ودفع البلاد إلى أزمة ديون غير مسبوقة، وفي 2022، وصلت تكلفة الإعفاءات الضريبية للشركات إلى 56% من إجمالي الإيرادات، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف ميزانية التعليم السنوية.

هذه السياسات لم تُضعف قدرة الدولة على الإنفاق الاجتماعي فحسب، بل أدت أيضًا إلى إخلال واضح بمبادئ العدالة الضريبية المنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان، والذي يُلزم الدول بتعبئة مواردها بأقصى ما تسمح به إمكاناتها لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها التعليم والصحة.

هيومن رايتس ووتش أكدت أن نظام الضرائب في سريلانكا يفتقر إلى الشفافية والقدرة المؤسسية، وأن هيئة الاستثمار التي تمنح الإعفاءات الضريبية تعمل في بيئة غير خاضعة للرقابة الكافية، مما يفتح الباب أمام الفساد واستغلال النفوذ، كما أشار التقرير إلى أن الديون الهائلة التي تراكمت نتيجة هذه السياسات دفعت الحكومة إلى إنفاق 57% من إيراداتها في عام 2024 على خدمة الديون، ما قلّص الإنفاق الاجتماعي إلى حدٍّ خطير.

في مارس 2023، تدخل صندوق النقد الدولي بخطة إنقاذ قيمتها 3 مليارات دولار لإعادة هيكلة الاقتصاد، لكن شروط القرض تضمنت إجراءات تقشفية زادت العبء على الطبقات الفقيرة، بحسب منظمات محلية مثل منتدى العدالة الاجتماعية السريلانكي التي انتقدت النهج المالي القاسي الذي يتجاهل البعد الإنساني.

تبني إصلاح ضريبي شامل

من جانبها، دعت الأمم المتحدة إلى تبني إصلاح ضريبي شامل قائم على العدالة الاجتماعية، معتبرة أن الأزمة في سريلانكا تُجسّد فشل النظام المالي الدولي في حماية حقوق الإنسان، وذكّرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان بأن السياسات الضريبية ليست مسألة اقتصادية فحسب، بل هي أداة لتحقيق المساواة وتوزيع الثروة بعدالة.

الحكومة الجديدة، برئاسة أنورا كومارا ديساناياكي، التي وصلت إلى السلطة في يناير 2025، وعدت بإصلاح شامل للنظام المالي والضريبي، ومن بين الخطوات التي اتخذتها حتى الآن تقديم منح تعليمية محدودة للعائلات الأكثر فقرًا بقيمة 6000 روبية سريلانكية شهريًا، لكنها لم ترفع ميزانية التعليم إلا بشكل طفيف، وتؤكد هيومن رايتس ووتش أن هذه الخطوات غير كافية، داعية الحكومة إلى رفع الإنفاق التعليمي تدريجيًا إلى ما بين 4 و6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو المعيار الذي أوصت به المنظمات الدولية.

على الصعيد الدولي، تعكس تجربة سريلانكا مأزقًا أوسع تواجهه الدول النامية في ظل النظام الضريبي العالمي الحالي، فالتنافس بين الدول لجذب الاستثمارات يدفعها إلى تقديم حوافز وإعفاءات للشركات متعددة الجنسيات، مما يحرمها من موارد حيوية لتمويل التعليم والرعاية الصحية، ولهذا تتزايد المطالبات بعقد معاهدة ضريبية دولية تحت مظلة الأمم المتحدة تُعيد التوازن وتضمن حقوق الدول في تحصيل إيرادات عادلة.

العديد من المنظمات الحقوقية، بينها أوكسفام ومنظمة العفو الدولية، دعمت نتائج تقرير هيومن رايتس ووتش، واعتبرت أن نموذج سريلانكا يُظهر كيف يمكن للسياسات الاقتصادية أن تتحول إلى قضية حقوق إنسان، وقالت أوكسفام في بيان لها إن الأطفال السريلانكيين يدفعون اليوم ثمن إعفاءات ضريبية لمستثمرين وشركات لم تُسهم في تنمية البلاد بقدر ما استفادت من مواردها.

تداعيات اجتماعية

إلى جانب الأثر الاقتصادي، تُلقي الأزمة بظلال ثقيلة على النسيج الاجتماعي، فقد شهدت البلاد احتجاجات متفرقة في المدن الكبرى للمطالبة بإصلاح التعليم وخفض الضرائب على السلع الأساسية، وتؤكد تقارير أممية أن معدلات الفقر ارتفعت إلى أكثر من 25% في 2023، وهي الأعلى منذ أكثر من عقدين، فيما تعاني الأسر الريفية من ضعف الأمن الغذائي وارتفاع تكاليف المعيشة.

في خلفية المشهد، يستحضر المراقبون التاريخ الطويل لسريلانكا مع التعليم العام، إذ كانت الدولة من أوائل بلدان آسيا التي ألغت رسوم التعليم في المدارس والجامعات بعد الاستقلال في 1948، لتتحول لاحقًا إلى نموذج تنموي يُحتذى، غير أن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي سادت منذ السبعينيات أضعفت هذا الإرث تدريجيًا حتى بات التعليم في 2025 عنوانًا لتفاوت طبقي صارخ.

في ضوء ذلك، ترى المنظمات الأممية أن معالجة الأزمة السريلانكية لا يمكن أن تتحقق عبر إجراءات مالية فقط، بل تتطلب رؤية شاملة تربط بين العدالة الضريبية والعدالة الاجتماعية، فكل ضريبة تُفرض أو تُعفى، كما يقول الخبراء، تحمل أثرًا مباشرًا على حياة الناس وحقوقهم الأساسية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية