بين الانتظار والغياب.. أسرة إسرائيلية تبحث لعامين عن الأب المختفي في أحداث أكتوبر
بين الانتظار والغياب.. أسرة إسرائيلية تبحث لعامين عن الأب المختفي في أحداث أكتوبر
لم يكن صباح السابع من أكتوبر 2023 يوماً عادياً في كيبوتس نير عوز، ذلك المجتمع الزراعي الصغير على بعد أربعة أميال فقط من حدود قطاع غزة، حين دوّى الإنذار، التفت تمير أدار إلى زوجته وطفليه وقال بهدوء: "دقيقتان فقط، سأعود"، كانت كلماته قصيرة، لكنها صارت وعداً مؤجلاً إلى أجلٍ غير معلوم.
ترك تمير، البالغ من العمر 38 عاماً، أسرته داخل الغرفة الآمنة، وانضم إلى ثلاثة من المتطوعين في فريق "المستجيبين الأوائل"، محاولاً صدّ الهجوم الذي لم يكن يعرف أحد حجمه آنذاك، بعد دقائق، اجتاح مئات المسلحين من حركة حماس السياج المحيط بالكيبوتس، وبدأت واحدة من أكثر الهجمات دموية في تاريخ المنطقة وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.
يقول نير أدار، شقيق تمير، بصوت متهدج وهو يحمل قميصاً طُبعت عليه صورة أخيه: "حتى اليوم، لا يزال ابن تمير يسأل: متى سيعود أبي؟.. نريد أن ننهي هذه القصة، نريد أن نعرف الحقيقة، أن نضع نهاية لهذه الغصة المستمرة".
مقاومة قصيرة وعزيمة طويلة
أصيب تمير برصاصة في البطن أثناء اشتباك استمر أكثر من ساعتين، بعدما حاول هو ورفاقه صدّ نحو 150 مهاجماً، كانت مهمتهم إبطاء الهجوم إلى حين وصول الجيش الإسرائيلي، لكن القوات لم تصل.
وقبل دقائق من انهيار دفاعهم، كتب تمير رسالة نصية لزوجته عند الساعة 8:26 صباحاً: "لا تفتحي الباب.. حتى لو كنت أنا"..كانت تلك آخر كلماته.
لاحقاً، عُرف أنه نُقل إلى داخل قطاع غزة، ثم إلى مدينة خان يونس، وهناك تأكد مقتله بعد ثلاثة أشهر من الصمت والبحث والانتظار، لم تتسلم العائلة جثمانه إلا في يناير من العام التالي.
عائلة مشتتة بين الفقد والأمل
بالقرب من منزل تمير، كانت تعيش جارة العائلة، شيري بيباس، مع طفليها كفير وأرييل، قتلوا هم أيضاً في الهجوم، وتضاربت الروايات حول مقتلهم؛ إذ قالت حماس إنهم قضوا في غارة إسرائيلية، في حين أكد تحقيق الطب الشرعي الإسرائيلي أنهم قُتلوا "بأيدي عارية".
أما الجدة، يافا أدار، البالغة من العمر 85 عاماً، فقد اختطفتها حماس على متن عربة صغيرة، وأُفرج عنها بعد شهر من الأسر.
نير الذي كان يسكن مقابل شقيقه، نجا بأعجوبة مع ابنتيه بعدما أغلق باب الغرفة الآمنة وأمسك بمقبضه بكل قوته، في حين كان المهاجمون يحاولون اقتحامه، "تلك اللحظة"، كما يروي، "كانت الحدّ الفاصل بين الحياة والموت".
عامان من الأسئلة بلا إجابات
بعد مرور عامين، لا تزال العائلة تعيش بين الأمل والخيبة، يقول نير: "نشعر بأننا خُذلنا، أخي كان من أوائل من خرجوا للدفاع عن المستوطنة وعن إسرائيل كلها، لقد أنقذ أرواحاً كثيرة، لكن بلده لم يستطع أن يعيده إلينا".
ويضيف: "أمي لم تتوقف يوماً عن الأمل، ما زالت تظن أنه حيّ. تقول إننا جميعاً ما زلنا مختطفين في غزة، بطريقة أو بأخرى".
وفي الوقت الذي كانت إسرائيل تحتفل فيه بعودة آخر عشرين رهينة على قيد الحياة في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، كانت عائلات أخرى، مثل عائلة أدار، تستقبل نعوش أحبائها.
من بين 28 رهينة تأكد مقتلهم، لا يزال 18 في عداد المفقودين، وتقول السلطات الإسرائيلية إن حماس "لا تعرف مكان الرفات أو لا تستطيع انتشالها"، في حين يصف نير ذلك بأنه "شكل جديد من الإرهاب المستمر، لا يقلّ قسوة عن القتل ذاته".
انقسام في الشارع الإسرائيلي
الصفقة الأخيرة التي بشّر بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أنها نهاية للحرب، لم تكن نهاية للانقسام داخل إسرائيل.
فبينما يرى بعض الإسرائيليين أن الوقت حان لوقف النزيف والعودة إلى الحياة، يؤكد آخرون أن الحرب لم تنتهِ بعد.
وكتبت صحيفة *جيروزاليم بوست* في افتتاحيتها الأخيرة: "ينبغي ألا يخلع أحد الشريط الأصفر حتى يعود آخر رهينة إلى وطنه".
هذا الجدل يعكس معاناة مجتمع بأسره، تمزّقه مشاعر الفقد والخوف والرغبة في الثأر، في حين تتراكم القصص الفردية التي تتجاوز الأرقام والسياسة لتكشف الوجه الإنساني للحرب.
آباء ينتظرون رفات أبنائهم
يشارك نير أدار حزنه كثير من العائلات. روبي تشين، والد الجندي الأمريكي الإسرائيلي إيتاي تشين، ما زال يعيش الصدمة منذ علم أن ابنه البالغ 19 عاماً قُتل داخل دبابته واقتيد إلى غزة في اليوم نفسه.
يقول تشين: "كل يوم أنتظر المكالمة التي ستغيّر كل شيء.. المكالمة التي ستخبرني أن ابني عاد، لكن عندما لا تأتي، تشعر وكأن اليوم لا ينتهي أبداً".
يضيف تشين الذي التقى الرئيسين جو بايدن ودونالد ترامب خلال العامين الماضيين لحثّهما على التحرك، أن "الأمل وحده هو ما يبقينا أحياء".
ويتابع: "زوجتي قالت للمبعوث الأمريكي ذات مرة: عندما تشتاق إلى ابنك الراحل، اذهب إلى مكانه، ستجده هناك في قلبك. هذه الفجوة بين الحياة والفقد لا يمكن لأحد أن يملأها".
الحرب التي لا تنتهي
بدأت مأساة السابع من أكتوبر 2023 عندما شنت حركة حماس هجوماً مفاجئاً على بلدات إسرائيلية قرب غزة، ما أدى إلى مقتل أكثر من 1200 شخص واختطاف نحو 240 آخرين، وردت إسرائيل بإطلاق حملة عسكرية واسعة ضد القطاع أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، بينهم آلاف الأطفال والنساء، وفق بيانات الأمم المتحدة.
ورغم مرور عامين، لم تُحسم الحرب سياسياً ولا إنسانياً، فبينما تتحدث الحكومة الإسرائيلية عن “نصر ضروري”، يرى مراقبون أن الكلفة الإنسانية غير المسبوقة جعلت المجتمع الإسرائيلي يعيش في دائرة من الحزن والغضب.
أما العائلات مثل أسرة أدار وتشين، فهي لا تبحث عن النصر، بل عن نهاية القصة، عن جثمان، عن قبرٍ يُزار، وعن جوابٍ لطفلٍ لم يتوقف عن السؤال: متى سيعود أبي؟