بعد حادث طرطوس.. مخاوف من تتنامى حالات الاختفاء القسري في الساحل السوري

بعد حادث طرطوس.. مخاوف من تتنامى حالات الاختفاء القسري في الساحل السوري
سوريون يحملون صور ذويهم المفقودين- أرشيف

شهدت منطقة الساحل السوري خلال الأشهر الأخيرة ارتفاعاً مقلقاً في حالات الاختفاء والعثور على أشخاص مجهولي المصير، ما يشي بوجود ظاهرة مقلقة تحمل أبعاداً أمنية وإنسانية ومجتمعية عميقة، ففي قرية عرقوب سلمون في ريف مدينة طرطوس غربي البلاد اختفى شاب من الطائفة العلوية مؤخراً بعدما توقّفت اتصالاته خلال عمله موزّع حليب في بلدة الشيخ بدر، والدراجة النارية التي كان يقودها تعطّلت، ثم تركها في محل إصلاح، قبل أن يُفقد أثره تماماً، في حين تواصل العائلة البحث وسط حالة قلق وترقّب، دون أي مؤشر واضح عن مصيره أو ما إذا كان تعرّض لحادث أو اختطاف بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.

وتعدّ هذه الواقعة واحدة من عدة حالات مُبلّغ عنها في سوريا خاصة في الريف الساحلي السوري، وتثير تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء تزايد الاختفاءات ومنها ضعف مؤسسات الدولة، وغياب الحماية، والانفلات الأمني، والحالة الاقتصادية التي تدفع الشباب إلى أعمال خطرة أو غير منظمة، وفي كثير من الحالات، قد لا يكون الاختفاء نتيجة عملية مخطّطة بل قد ينجم عن موقف ميداني عرضي أو حادث مرور أو استهداف من جهات مسلحة غير منظّمة.

من الناحية الإنسانية، يضع غياب الشاب عائلته وأقاربه في وضع معقّد: الحيرة، البحث، النفور الاجتماعي، صدمة مجهول المصير، وتراكم الأعباء النفسية والاقتصادية، فعائلة الشاب العلوي باتت مضطرة إلى متابعة الشرطة والأمن المحلي، وتقليب سجل الاتصالات، وزيارات المحالّ ومراكز الإصلاح، وفي المنزل الأطفال ينتظرون عودة الأب أو الأخ، وقد تتدهور الحالة النفسية للداخلين في الغياب، بل ويُهدّد هذا الظرف بالانفصال الاجتماعي والأسري عند تأخّر الحلول.

على صعيد التعليم والعمل، تغيب اليد العاملة التي يعتمد عليها العديد من الأسر، ويؤثر اختفاء عامل أو شاب في الدورة الاقتصادية الصغيرة للقرية، ومع تراكم الحالات تصبح ظاهرة اختفاء شبحاً يحوم فوق المجتمع، كما يُخشى أن تشكّل هذه الحالات نموذجاً لنزيف بشري في مناطق يعاني سكانها من ضعف الخدمات وغياب الرقابة الأمنية.

الأزمة السورية

منذ اندلاع النزاع السوري مطلع عام 2011 دخلت البلاد في دوامة من التهجير والنزوح والاعتقال القسري والغياب القسري، وتُقدّر منظمات حقوق الإنسان أن آلاف الأشخاص لا يزالون مفقودين حتى اليوم في سوريا، إذ ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها الرابع عشر أن ما لا يقلّ عن 177057 شخصاً اختفوا قسرياً منذ مارس 2011 حتى أغسطس 2025، ومنهم أكثر من 4500 طفل و8900 امرأة.

ولا توجد حتى الآن إحصاءات رسمية محليّة موثوقة تفصّل عدد حالات الاختفاء في الساحل السوري تحديداً، فإن تقارير المجتمع المدني تؤكد تصاعدها. وترصد منظمات حقوق الإنسان استمرار حالات الاختفاء القسري أو الغياب لأشخاص في مناطق ريفية ساحلية ضمن سياق واسع يشمل مناطق متعددة من البلاد، وعند رصدها تُبيّن منظمات حقوق الإنسان أن التهم غالباً لا تزال مجهولة، وأن التحقيقات لا تتقدّم بما يكفي، ما يجعل العائلات في حالة انتظار طويل بلا إجابات.

الردود الحقوقية والقانون الدولي

ترى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية في هذه الظاهرة انتهاكاً لعدد من الحقوق الأساسية، أبرزها الحق في الحياة والحق في الحماية من الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري، كما ينصّ على ذلك القانون الدولي، تحديداً اتفاقية الأمم المتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الذي يُعدّ جريمة ضد الإنسانية حين يُرتكب بشكل منهجي، وتُلزم الدولة بواجبات التحقيق والمساءلة والتعويض عن الضحايا. 

في سياق سوريا، أشار تقرير الشبكة السورية إلى أن الاختفاء القسري ليس مجرد خرق فردي، بل أداة جماعية للإرهاب والسيطرة على المجتمع، كما طالبت منظمة العفو الدولية باستقلالية لجنة التحقيق وضمان الوصول إلى الوثائق والمعتقلين وكشف مصير المفقودين. 

في الساحل السوري، حيث يعيش الشاب المفقود، تعد الحالة بمنزلة جرس إنذار فقد مرّت السلطات بمراحل من التحقيقات التي لم تؤدّ إلى نتائج واضحة، ما يزيد من شعور العائلات السورية بأن المسار القضائي والطبيعي للمساءلة غير فاعل أو مُعرَض لعرقلة.

لماذا الساحل وما هي التداعيات؟

منطقة الساحل في سوريا والتي تضم مدناً مثل طرطوس، اللاذقية، جبال الساحل، مرتّبة طائفياً وإدارياً، وتعرضت لموجات نزوح ومواجهات مسلحة متقطّعة، كما شهدت تحولات أمنيّة وتهرّباً من سيطرة الدولة المركزية، ما جعلها مسرحاً لتغييرات سريعة في ظروف الحماية، وهذا الواقع يجعلها معرضة لجرائم الاختفاء أو الاختطاف أكثر من بعض المناطق الأخرى، ولا سيما حين يكون الشاب يعمل أو يتحرك بين قرى وبلدات ريفية، أقل تأميناً، وأكثر هشاشةً أمام التهديدات في ظل غياب رقابة فعالة، وضعف أمن المحليات، وتداخل السلطة بين جهات رسمية وغير رسمية.

إذا استمرت هذه الفوضى في الاختفاء دون معالجة، فإن المأساة لا تقتصر على فرد واحد أو عائلة واحدة، بل تصبح بُعداً جماعياً يتمثل في فقدان الثقة بين المجتمع والدولة، وزعزعة الأمن الاجتماعي، وربما يؤدي إلى نزوح داخلي أو هجرة خارجية لمن يشعر بعدم الأمان، فضلاً عن أن كل حالة اختفاء تُثقل كاهل الأسر نفسياً واقتصادياً، في الانتظار، وأن يُطالَب بالحق في المعرفة والعدالة، لأنّ خلف كل شخص مفقود قصّة، ووراء كل عائلة انتظارٌ لا بد أن ينتهي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية