سيناريوهات الفوضى بالشرق الأوسط.. صواريخ في السماء وحقوق تُقصف على الأرض
على وقع حرب إيران وإسرائيل
تشهد منطقة الشرق الأوسط تصعيدًا خطِرًا وغير مسبوق في المواجهة بين إسرائيل وإيران، في ظل عمليات عسكرية مباشرة تستهدف البنية التحتية النووية والعسكرية للطرفين، وسط مخاوف متزايدة من تداعيات كارثية على الملاحة في مضيق هرمز -الذي يمر من خلاله نحو ربع ناقلات النفط العالمية- وانعكاسات محتملة على الاقتصاد الدولي، بالتزامن مع استمرار التصعيد في قطاع غزة والهجمات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وسوريا.
ويرى خبراء سياسيون وحقوقيون تحدثوا لـ"جسور بوست" أن منطقة العالم العربي والشرق الأوسط تقف على أعتاب أزمة شاملة تهدد الحقوق الاقتصادية والسياسية وحرية التنقل، مع احتمالات حقيقية لتدهور الخدمات الأساسية في إيران وإسرائيل وعدد من دول الجوار، مؤكدين أن استمرار المواجهة العسكرية ينذر بموجة غير مسبوقة من انتهاك الحقوق، ولا حل سوى بتفاهمات توقف النزيف قبل أن يمتد أثره إلى العالم بأسره، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي.
فجر الجمعة الماضي، أعلنت إسرائيل عن بدء عملية "الأسد الصاعد"، وهي أوسع هجماتها العسكرية ضد إيران منذ عقود، حيث استهدفت منشآت نووية ومراكز أبحاث ومواقع قيادية تابعة للحرس الثوري الإيراني، إلى جانب عدد من العلماء البارزين في المجال النووي.
ووصفت وسائل إعلام إسرائيلية العملية بأنها "الأكبر منذ أكثر من عشرين عامًا"، مشيرة إلى أنها أسفرت عن "اختراقات نوعية" في عمق البنية التحتية العسكرية الإيرانية.
رداً على ذلك، أطلق الحرس الثوري الإيراني عملية "الوعد الصادق 3"، والتي شملت استهداف مواقع عسكرية إسرائيلية في الجولان ومناطق أخرى لم تُكشف بعد، وأكدت طهران أن الرد "مفتوح زمانًا ومكانًا" ضمن استراتيجية ردع شاملة تهدف إلى إعادة رسم قواعد الاشتباك.
جبهات مفتوحة
وفي أول خطاب متلفز له عقب بدء الهجمات، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الشعب الإيراني إلى الثورة ضد النظام، في رسالة مباشرة تعكس طبيعة التصعيد العسكري المفتوح.
ولم تقتصر الضربات على الأهداف العسكرية فحسب، بل امتدت إلى البنى التحتية الاقتصادية، حيث استُهدفت حقول الغاز ومصافي النفط في إيران، مقابل ضربات إسرائيلية على مصفاة حيفا ومحطات الكهرباء.
وبحسب بيانات وكالة "بلومبرغ"، فإن نحو 16.5 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمكثفات تمر عبر مضيق هرمز، ما يجعله شريانًا حيويًا في تجارة الطاقة العالمية، إلى جانب كميات ضخمة من الغاز الطبيعي المُسال، معظمها من قطر، تمثل أكثر من خُمس الإمدادات العالمية.
وقد قفزت أسعار خام برنت بأكثر من 9 بالمئة عقب الضربة الإسرائيلية، مقتربة من 90 دولارًا للبرميل، قبل أن تتراجع المكاسب إلى نحو 5.6 بالمئة ليستقر السعر حول 73 دولارًا.
تراجع الحقوق والحريات
وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي العراقي، حسين السبعاوي، لـ"جسور بوست": "طالما استمر التصعيد العسكري، فستكون الحروب على حساب الحقوق والحريات وحياة المواطنين، والانتهاكات موجودة أصلًا، لكنها تتفاقم مع الحروب، إلى جانب التهجير وتعطل الخدمات، سواء في إيران أو في دول المنطقة المجاورة".
وأضاف: "القيود على حرية التعبير والسفر والإعلام باتت أكثر وضوحًا، والاقتصاد يعاني بشدة، في ظل اتجاه لتشديد الإجراءات بهدف احتواء تداعيات التصعيد، لا سيما في إيران".
وشدد السبعاوي على أن "كلاً من إيران وإسرائيل، بل والعالم كله، متأثرون، من حركة الطيران إلى أسعار النفط والخدمات والسلع، والمواطن هو المتضرر الأكبر، والضمانة الوحيدة لحماية الحقوق تبقى في تحقيق الاستقرار والالتزام بالقانون، وهو ما لا تعرفه الحروب".
سياسات النأي بالنفس
من جانبه، يرى المحلل السياسي اللبناني، الدكتور طارق أبوزينب، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل يحمل في طياته أخطاراً كبرى تهدد استقرار المنطقة، وقد تؤدي إلى تراجع حاد في الحقوق والحريات.
وقال أبو زينب: "في ظل الفوضى المحتملة، قد تلجأ الحكومات إلى إجراءات أمنية صارمة لحماية الداخل، ولكن هذا يأتي على حساب الحريات العامة".
وأوضح أن التصعيد العسكري يفاقم الأزمات المعيشية نتيجة اضطراب الأسواق، وهروب الاستثمارات، وارتفاع تكاليف الحياة، مؤكداً أن الحفاظ على الحقوق السياسية والاقتصادية للمواطنين يتطلب من الحكومات تبني سياسات عقلانية، والنأي بالنفس عن التورط في نزاعات خارجية، مع الالتزام بمعايير حقوق الإنسان.
وأشار إلى أن مواجهة التحديات الاقتصادية تستوجب تدخلات حكومية عاجلة تضمن استقرار الأسواق وحماية الفئات الأكثر هشاشة، داعيًا إلى موازنة دقيقة بين الأمن وضمان الحريات، بعيدًا عن استغلال الأزمة لتقييد الحقوق أو قمع المجتمع.
الاحتقان الاجتماعي
وعلى صعيد متصل يرى المحامي والناشط السوري أنس جودة، أن طرح تساؤلات حول مستقبل الحقوق والحريات في ظل التصعيد الإقليمي الحالي بين إسرائيل وإيران بات أمرًا مشروعًا وملحًّا، في ضوء هشاشة البُنى السياسية والاجتماعية في المنطقة، وتراجع الضمانات الديمقراطية على نحو مقلق.
وحذّر جودة في تصريحه لـ"جسور بوست" من أن سيناريوهات الفوضى الشاملة الناتجة عن تبادل الهجمات لا تهدد فقط الأمن القومي للدول، بل تنذر بانكماش خطِر في الحقوق والحريات العامة، تحت ذرائع "الأمن الوطني" و"حالة الطوارئ".
وأضاف: "كلما اتسعت رقعة الحرب وازدادت حدتها، زادت احتمالات انهيار اقتصادي متزامن مع ارتفاع أسعار الطاقة، ما يفتح المجال لتغول الدولة الأمنية، من خلال تقييد الإعلام والتعبير بحجة التصدي للشائعات أو الدعاية المعادية، والتضييق على الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني واعتبارها رفاهية لا مكان لها في زمن الحرب".
وأوضح أنس جودة أن هذه المعطيات تُمهّد لمشهد إقليمي تتآكل فيه الحريات الاقتصادية أيضًا، في ظل رقابة مشددة على الأسواق دون حوكمة فعالة أو شفافية، وهو ما يعزز حالة الاحتقان الاجتماعي، ويزيد من هشاشة المجتمعات.
الخروج من الثنائية
ولمواجهة هذا الواقع، دعا جودة إلى الخروج من الثنائية المدمرة: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" من جهة، و"المجتمع المدني مطية للتدخل الخارجي" من جهة أخرى، عبر تبني مقاربة جذرية تعالج الأسباب لا المظاهر فقط.
وقال جودة: "المطلوب اليوم تحصين العمل المدني ببناء شبكات محلية قادرة على توثيق الانتهاكات والدفاع عن المساحات المفتوحة، وربط هذا الدور بخطاب وطني وأمني متماسك، لا يُصنّف تلقائيًا كتهديد بل كعنصر داعم للاستقرار".
وشدد على ضرورة أن تقابل السلطات هذا التوجه بانفتاح وشفافية، من خلال الإعلان قدر الإمكان عن خطط الطوارئ وآليات إدارتها، وإشراك المجالس والهيئات الرئيسية في اتخاذ القرارات المصيرية، بدلًا من الانفراد بها.
على المستوى الاقتصادي، شدد جودة على أهمية حماية الاقتصاد المجتمعي من خلال دعم المبادرات المحلية الصغيرة، اللامركزية منها على وجه الخصوص، باعتبارها أحد أعمدة الصمود الداخلي، وتقليص الاعتماد المفرط على الدولة أو على التمويل الخارجي.
وأشار إلى أن "تعزيز التعاونيات وتوزيع الموارد بشفافية وعدالة، من شأنه أن يرسخ التضامن الأهلي ويقلل من الفجوات الطبقية المتفاقمة بفعل الأزمات".
بين القمع والانفجار
ويرى جودة أن مجتمعات الشرق الأوسط باتت ممزقة بين القمع والانفجار، وسط أنظمة تصدر أزماتها إلى الخارج بافتعال تحديات متكررة، وجيل شاب لم يعد يؤمن بإصلاح تدريجي بل يطالب بتغيير جذري.
وأضاف: "الأقليات القومية والدينية باتت في واجهة الاحتجاجات التي تُقابل غالبًا بقمع أشد من ذاك الذي يطول الفئات الأخرى، فيما تحولت المرأة في دول مثل إيران إلى رمز مركزي للمقاومة والاحتجاج السياسي".
في المقابل، يوضح جودة أن النخب الإصلاحية إما تم استئصالها أو اختارت الانسحاب، وهو ما أدى إلى انسداد الأفق السياسي الداخلي، وخلق فراغ كبير في الشرعية، تُرجِم في النهاية بهجرة كثيفة للعقول والكفاءات.
واختتم جودة حديثه بدعوة إلى خطاب سياسي بديل يؤكد أن "أمن الدولة يجب ألا يعني اختناق المواطن، بل إن صمود المجتمعات يتحقق فقط من خلال صيانة حقوقها الأساسية، وأن الحروب لا تبرر سحق الناس أو تحويلهم إلى رهائن تحت غطاء الطوارئ"، ولا سيما أن الخطر الأكبر ليس في القصف أو الدمار، بل في التطبيع مع الفوضى، وفي تكريس الاستبداد كأمر واقع بحجة التصدي للتهديدات.