الأمم المتحدة: التمكين الاقتصادي يغيّر حياة الناجيات من العنف بالبوسنة والهرسك

الأمم المتحدة: التمكين الاقتصادي يغيّر حياة الناجيات من العنف بالبوسنة والهرسك
أمرأة تحمل علم البوسنة والهرسك

فرت الشابة ياسنا، البالغة من العمر 19 عامًا، من ويلات الحرب التي اندلعت في البوسنة والهرسك عام 1992، فلجأت إلى قبو منزل مجاور في بلدة زفورنيك برفقة طفلتها ذات العامين، وشقيقتيها، وحماتها.

وفقًا لتقرير نشره الموقع الرسمي لصندوق الأمم المتحدة للسكان، واجهت ياسنا وأسرتها مأساة جديدة بعد أن اقتادهم الجنود إلى معسكر اعتقال في كاراكا، حيث تعرّضت هناك لانتهاكات قاسية شملت عنفًا جنسيًا منهجيًا.

وتُظهر تجارب النزاعات المسلحة في مختلف أنحاء العالم استخدام العنف الجنسي -بما يشمل الاغتصاب، والإيذاء، والإكراه، والاتجار- كوسيلة لإرهاب النساء والفتيات، ما يُخلف آثارًا جسدية ونفسية مدمرة يصعب تجاوزها.

وقدّرت منظمات دولية عدد من تعرضوا للاغتصاب أو الاعتداء الجنسي في النزاع البوسني بين عامي 1992 و1995 بنحو 20,000 امرأة ورجل، إلا أن هذا الرقم لا يعكس الحقيقة الكاملة، نظرًا للخوف من الإبلاغ والوصمة الاجتماعية التي تُعيق الإفصاح عن هذه الجرائم.

نجحت ياسنا بعد 10 أيام من الاعتقال في الهرب مع عائلتها سيرًا على الأقدام إلى كرواتيا، حيث انضمت إلى زوجها، ثم لجأت إلى ألمانيا، وبعد انتهاء الحرب، عادت العائلة إلى ديارها، لكنها اضطرت للعيش في حظيرة قرب مدينة توزلا، ومع تدهور الظروف الاقتصادية والمعيشية، بدأ زوجها يُمارس ضدها عنفًا جديدًا.

صدمات نفسية متراكمة

واجهت ياسنا صدمات نفسية متراكمة، حتى أحالتها زيارة لمركز صحة الأم المدعوم من صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى منظمة "سناغا زيني" (قوة المرأة)، وهي منظمة غير حكومية تقدم دعمًا نفسيًا واجتماعيًا وطبيًا وتعليميًا وقانونيًا للاجئات والناجيات من العنف الجنسي المرتبط بالنزاع.

استقبلت المنظمة ياسنا في سن الـ52، وقد شكّل دخولها إلى المركز لحظة فارقة في مسار حياتها.

أتاحت لها "سناغا زيني" فرصة المشاركة في مشروع زراعي داخل دفيئة، حيث زرعت الفلفل والطماطم والخيار والباذنجان، من خلال العمل في الأرض، استعادت ياسنا شعورها بالهدف، وبدأت تبيع محاصيلها، ما مكنها من بناء منزل جديد لعائلتها، والبدء بحياة أكثر استقرارًا.

أدى هذا التمكين الاقتصادي إلى تحوّل جذري في علاقتها بزوجها، إذ أسهم اكتفاؤها الذاتي في إنهاء دائرة العنف التي كانت تعيشها.

التمكين الاقتصادي

أظهرت بيانات صندوق الأمم المتحدة للسكان في البوسنة والهرسك أن نحو نصف النساء في سن العمل مستبعدات من سوق العمل، ويُحرمن من مصادر دخل تعينهن على إعالة أنفسهن أو أسرهن، وتحتاج أكثر من 500 ألف امرأة عاطلة عن العمل إلى تدريب أساسي ودعم لتأمين سبل العيش.

شاركت نساء أخريات في برامج مماثلة، مثل أمينة، التي انخرطت في زراعة الأعشاب الطبية لاستخدامها في الشاي، مما وفر لها مصدر دخل إضافي.

وأوضحت ياسنا: "نُثقّف أنفسنا حول كل نبتة نزرعها، نعرف استخداماتها وكيفية حمايتها، الأمر لا يتعلق بالمال فقط، بل بالمعرفة والشعور بالهدف الذي تمنحه لنا".

رفع الثقة بالنفس لدى النساء

أسهمت هذه المبادرات في رفع الثقة بالنفس لدى النساء وتوسيع معارفهن، كما أعادت لهن الشعور بالكرامة بعد سنوات من الصدمة والعنف والإقصاء الاجتماعي.

عزّزت منظمة "سناغا زيني" مبادرات الدعم الجماعي، فأنشأت مساحات آمنة للنساء لتبادل تجاربهن، والانخراط في علاج نفسي جماعي، ما ساعد الناجيات على تجاوز الصدمات والتعافي الجماعي.

قدّمت المنظمة أيضًا بيوتًا زجاجية خاصة للنساء اللواتي مررن بتجارب عنف جنسي خلال الحرب، في محاولة لتمكينهن اقتصاديًا ونفسيًا.

شاركت ابنة ياسنا، التي تنتمي إلى جيل الناجيات الثاني، في هذه المبادرات، وبدأت بدورها في استعادة حياتها من خلال أدوات جديدة تُتيح لها الشفاء والاستقلال.

انتهاك صارخ لحقوق النساء

أكدت المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، الدكتورة ناتاليا كانيم، في كلمتها بمناسبة اليوم الدولي للقضاء على العنف الجنسي في النزاعات، قائلة: "تُلحق الصدمات الجسدية والنفسية ضررًا كبيرًا بالفرد، وتُخلف آثارًا تمتد عبر الأجيال.. العنف الجنسي ليس ضررًا جانبيًا للنزاع، بل هو انتهاك صارخ لحقوق النساء واستقلاليتهن الجسدية".

وشددت كانيم على أن إنهاء هذا النوع من العنف يبدأ بتعزيز نظم العدالة، وتوفير الدعم النفسي والاقتصادي للناجيات، والاستثمار في الوقاية والتمكين المجتمعي.

أسهمت مبادرات التمكين النسوي في تعزيز المرونة المجتمعية والاستدامة الاقتصادية، إذ يُعد دعم النساء وسيلة فعالة لبناء أسر قوية ومجتمعات أكثر صمودًا.

أظهرت الدراسات أن تعزيز المشاركة النسائية في القوى العاملة لا يدعم النمو الاقتصادي فحسب، بل يُسهِم في تحقيق توازن أسري أفضل، وتمكين الشباب والشابات من تحقيق طموحاتهم في الشراكة والأبوة.

تعيش ياسنا اليوم حياة أسرية مستقرة وسعيدة، وقد تجاوزت سنوات طويلة من العنف والخوف، قالت في ختام حديثها مع صندوق الأمم المتحدة للسكان: “لا أطيق الانتظار حتى أستيقظ في الصباح وأذهب لأرى نباتاتي تنمو، يُشعرني ذلك بالسلام، أشعر وكأنني عدتُ إلى الحياة”.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية