الاختفاء القسري في النزاعات المسلحة.. جريمة حقوقية تمزق الأفراد والمجتمعات

الاختفاء القسري في النزاعات المسلحة.. جريمة حقوقية تمزق الأفراد والمجتمعات
جريمة الإخفاء القسري- تعبيرية

تُعد ظاهرة الاختفاء القسري واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، وتتفاقم حدتها ووحشيتها بشكل خاص خلال النزاعات المسلحة. فبينما تُعاني المجتمعات من ويلات الحرب، تُضاف إليها طبقة أخرى من الألم والمعاناة عندما يُقتلع الأفراد من ذويهم دون أثر، ويُحرمون من حقهم في التواصل أو المحاكمة، تاركين عائلاتهم في حالة من الشك والعذاب لا ينتهي.

هذه الجريمة المزدوجة لا تُنهي حياة شخص فحسب، بل تُدمّر حياة عائلة بأكملها، وتُخلّف آثارًا نفسية واجتماعية عميقة تُعيق التعافي وتُهدد النسيج المجتمعي.

"جسور بوست" في هذا التقرير تُسلط الضوء على الأبعاد المأساوية للاختفاء القسري في مناطق النزاع، بالتركيز على آثاره النفسية والاجتماعية المدمرة، مع عرض لبعض تقارير المنظمات الحقوقية والأممية، حول هذه الكارثة الإنسانية.

جريمة بلا أثر وبلا مساءلة

وفقًا لتعريف الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (2006)، يُقصد بالاختفاء القسري احتجاز شخص ما أو اختطافه على أيدي الدولة أو بدعمها أو بموافقتها، مع رفض الاعتراف بحرمانه من الحرية أو إخفاء مصيره ومكان وجوده.

تصف اللجنة الدولية للصليب الأحمر الاختفاء القسري بأنه جريمة مزدوجة؛ لأنه يعتدي على الضحية أولًا، ثم يُعذب عائلته وجماعته بحرمانهم من معرفة مصيره، ورغم أنه يُرتكب في مناطق النزاع غالبًا بدعوى الأمن القومي أو مكافحة الإرهاب، فإنه يظل جريمة لا تسقط بالتقادم.

وفي تقريرها السنوي لعام 2024، أفادت اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري التابعة للأمم المتحدة بأنها تلقت أكثر من 59 ألف حالة غير محلولة منذ عام 1980، وأشارت إلى أن هذه الأرقام لا تعكس سوى جزء ضئيل من الواقع، بسبب خوف الأسر من الإبلاغ خشية الانتقام.

أما في سوريا وحدها، فقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نحو 112 ألف حالة اختفاء قسري منذ بداية النزاع عام 2011 حتى نهاية 2023، غالبيتهم على يد قوات النظام، تليها جهات أخرى مثل داعش والفصائل المسلحة.

وفي أمريكا اللاتينية، لا تزال آثار الاختفاء القسري في العقود الماضية حاضرة، حيث سجلت الأرجنتين وحدها أكثر من 30 ألف مفقود خلال الحكم العسكري بين 1976 و1983.

الأثر النفسي على العائلات

يصف علماء النفس معاناة أهالي المفقودين بأنها حالة حزن معلّق فلا هم يملكون حق الحداد ولا القدرة على البدء بحياة جديدة، ليعيشوا في دوامة أمل كاذب وقلق مستمر، وتُظهر دراسات أعدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن عائلات المفقودين تعاني نسبًا مرتفعة من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.

في تقريرها لعام 2023، وثقت منظمة العفو الدولية شهادات لأمهات في العراق وسوريا واليمن انتظرن أبناءهن لسنوات دون معلومة واحدة مؤكدة، ما أدى لتدهور صحتهن النفسية والجسدية، وتسبب في تفكك بعض الأسر.

الاختفاء القسري لا يمزق العائلات فقط، بل يهز استقرار المجتمعات، فغياب آلاف الأشخاص يترك فراغًا في سوق العمل، ويزيد الأعباء الاقتصادية على الأسر التي تفقد معيلها الرئيسي، وفي المجتمعات التقليدية، يؤدي غياب رب الأسرة إلى هشاشة اقتصادية، خاصة للنساء اللواتي يواجهن أحيانًا تمييزًا مضاعفًا.

ويولّد الخوف من الاختفاء القسري حالة صمت مجتمعي، حيث يتجنب السكان الحديث عن الشأن العام خشية المصير نفسه، وحول هذا تقول المفوضية السامية لحقوق الإنسان إن "هذه الجريمة تُستخدم أداةً لكسر روح المقاومة وإرهاب المجتمعات بأكملها".

وتُغير حالات الاختفاء القسري من التركيبة الديموغرافية والاجتماعية للمجتمعات، حيث يزداد عدد الأسر التي تعولها النساء أو كبار السن، وتُصبح الأجيال الجديدة تُعاني من غياب قدوات أسرية مهمة.

وسيلة قمع خلال النزاعات

في النزاعات المسلحة، يتحول الاختفاء القسري إلى وسيلة ممنهجة لإسكات المعارضين ونشطاء المجتمع المدني ففي سوريا واليمن وليبيا، استُخدم هذا الأسلوب ضد الصحفيين والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان.

وتؤكد هيومن رايتس ووتش في تقريرها الأخير أن الاختفاء القسري لم يكن مجرد تجاوزات فردية، بل سياسة رسمية هدفها سحق أي صوت معارض أو مستقل.

ورغم الجهود الدولية، يبقى معدل محاسبة المسؤولين عن الاختفاء القسري منخفضًا للغاية، وتذكر العفو الدولية أن أغلب الدول ترفض التعاون مع لجان التحقيق أو حتى الاعتراف بوجود حالات اختفاء، ما يُبقي الضحايا وعائلاتهم بلا إنصاف.

كما يؤدي بطء القضاء المحلي والدولي إلى استمرار الألم، إذ قد تستمر القضايا لعقود دون نتيجة، كما حدث في لبنان مع ملف آلاف المفقودين منذ الحرب الأهلية (1975–1990) والذي لا يزال معلقًا حتى اليوم.

تحركات دولية خجولة

رغم إقرار اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري عام 2006، فإن نحو نصف دول العالم فقط صادقت عليها حتى اليوم، ويعني ذلك بقاء ملايين الأشخاص بلا حماية قانونية فعّالة.

وتحذر اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أن النزاعات الجديدة، خاصة في إفريقيا والشرق الأوسط، تزيد أعداد المختفين بشكل غير مسبوق، بينما لم تتطور الآليات الدولية بما يكفي لمواجهة هذه الأزمة.

وأمام صمت السلطات، لجأت عائلات المفقودين إلى تأسيس جمعيات ومنظمات للمطالبة بالحقيقة، في الأرجنتين، أصبحت حركة "أمهات ساحة مايو" رمزًا عالميًا للمقاومة السلمية ضد الاختفاء القسري.

وفي لبنان، تأسست اللجنة الدولية للمفقودين التي ساعدت عبر تحليل الحمض النووي في كشف مصير مئات الأشخاص، وفي سوريا تم إنشاء اللجنة الوطنية للشخصيات المفقودة، بموجب مرسوم رئاسي صدق عليه في 17 مايو الماضي، وتبرز أيضًا جهود رابطة أمهات المختطفين في اليمن، التي تنظم فعاليات شبه يومية لتذكير المجتمع بمعاناة المختفين.

توصيات حقوقية متكررة

تدعو المنظمات الحقوقية الدولية الحكومات إلى الاعتراف رسميًا بوقوع حالات اختفاء قسري، والانضمام للاتفاقية الدولية ومحاسبة المسؤولين عنها، وإنشاء قواعد بيانات للمفقودين وإتاحة معلومات للعائلات، وتقديم دعم نفسي واجتماعي واقتصادي لعائلات المختفين.

وشددت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على ضرورة أن تكون معرفة الحقيقة حقًا غير قابل للتفاوض، وأن يبقى البحث عن المفقودين أولوية في أي عملية سلام أو انتقال سياسي.

ويظل من أخطر أدوات العنف في النزاعات، إذ لا يقتل الجسد فحسب، بل يغتال الذاكرة ويصادر الأمل، وبينما تبقى الحقيقة غائبة، يعيش الضحايا وأسرهم في سجن من الأسئلة التي لا تجد جوابًا.

ولن يندمل هذا الجرح إلا بإرادة سياسية حقيقية لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة، ليس فقط إنصافًا للمختفين وعائلاتهم، بل حمايةً للمجتمعات من تكرار المأساة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية