لمواجهة عنصرية متجذرة.. حقوقيون يطالبون بخطة وطنية عاجلة لمكافحة الإسلاموفوبيا في أستراليا
لمواجهة عنصرية متجذرة.. حقوقيون يطالبون بخطة وطنية عاجلة لمكافحة الإسلاموفوبيا في أستراليا
تعيش أستراليا لحظة مفصلية في مسارها الحقوقي، مع تجدد الدعوات إلى مكافحة الإسلاموفوبيا بعد صدور تقرير المبعوث الخاص لمكافحة هذه الظاهرة، والذي لقي ترحيبًا واسعًا من مفوض التمييز العنصري جيريداران سيفارامان، ولم يكتفِ برصد وقائع العنف والتمييز ضد المسلمين، بل كشف عن الطابع البنيوي لهذه الظاهرة في مؤسسات التعليم والإعلام والسياسة وإنفاذ القانون، وفق تقرير نشرته موقع مفوضية حقوق الإنسان الأسترالية الثلاثاء.
وبينما تتزايد الاعتداءات والتهديدات ضد المساجد والمدارس الإسلامية، باتت قضية مواجهة الكراهية مسؤولية وطنية ملحّة لا تحتمل التأجيل.
جذور تاريخية لظاهرة متجذرة
لم تولد الإسلاموفوبيا في أستراليا من فراغ، فمنذ عقود، ارتبط النقاش العام حول الهجرة والهوية الوطنية بتوجسات من الأقليات المسلمة، وتزايدت هذه المشاعر عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث ارتفعت حوادث التمييز والمراقبة الأمنية للمجتمعات الإسلامية، وأكدت دراسات محلية أن المسلمين كثيرًا ما يُصورون في الإعلام كتهديد أمني، ما غذّى الصور النمطية ورسّخ الخوف في المخيال العام.
تقرير المبعوث الخاص.. صورة مقلقة
سلط التقرير الأخير الضوء على آثار الإسلاموفوبيا في مختلف القطاعات، ففي مجال التعليم، تعاني الطالبات المسلمات من التنمر والوصم بسبب ارتداء الحجاب، ففي قطاع الإعلام، تتكرر التغطيات التي تربط الإسلام بالتطرف والعنف، أما في مجال إنفاذ القانون فقد وثّقت شهادات تعرض رجال مسلمين لاستهداف غير متكافئ في عمليات المراقبة والتوقيف، كما بيّن التقرير أن النساء المسلمات هن الأكثر عرضة للاعتداءات اللفظية والجسدية في الأماكن العامة.
الهواجس الحقوقية ازدادت بعد سلسلة حوادث مثيرة للقلق، أبرزها رسالة تهديد إلكترونية وصلت إلى الكلية الإسلامية في بريزبين، والإنذار الكاذب بوجود قنبلة في مسجد أروندل، ولم تكن هذه الحوادث مجرد وقائع فردية، بل رسائل ترهيب تستهدف حرمان المجتمعات المسلمة من الشعور بالأمان والانتماء. المفوض سيفارامان شدد على أن "كراهية الإسلام تعزل المجتمعات وتُضعف الثقة وتعزز الخوف"، مؤكدًا أن هذه الظاهرة تمثل خطرًا على النسيج الاجتماعي بأكمله.
تداعيات اجتماعية واقتصادية
الإسلاموفوبيا ليست مجرد ظاهرة ثقافية أو نفسية، بل لها انعكاسات اجتماعية واقتصادية ملموسة، فالتمييز في العمل يحد من فرص توظيف المسلمين، بينما يؤدي استهداف الطلبة إلى عزوف بعضهم عن استكمال دراستهم في بيئات معادية، كما يترتب على التهديدات الأمنية تكاليف مالية إضافية على المساجد والمدارس الإسلامية لتأمين مرافقها، وتشير تقديرات اللجنة الأسترالية لحقوق الإنسان إلى أن كلفة العنصرية، بما فيها الإسلاموفوبيا، تُقدّر بمليارات الدولارات سنويًا نتيجة خسائر الإنتاجية والإنفاق على الأمن والصحة.
موقف المنظمات الحقوقية المحلية والدولية
منظمات المجتمع المدني في أستراليا دعت مرارًا إلى تبني خطة وطنية شاملة لمكافحة الإسلاموفوبيا، معتبرة أن الإجراءات الحالية غير كافية، وطالبت منظمة العفو الدولية فرع أستراليا الحكومة بتعزيز التشريعات المناهضة للتمييز وضمان تمثيل المجتمعات المسلمة في صياغة السياسات، أما مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فقد حذر في تقاريره من تزايد خطاب الكراهية الموجه ضد الأقليات الدينية، داعيًا الدول، ومنها أستراليا، إلى الالتزام بتعهداتها بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
القانون الدولي.. التزامات قائمة
وفقًا للقانون الدولي، تتحمل أستراليا التزامًا واضحًا بحماية مواطنيها والمقيمين فيها من التمييز الديني، وتكفل المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حرية الدين والمعتقد، فيما تحظر المادة 20 من العهد الدولي التحريض على الكراهية الدينية، إضافة إلى ذلك شددت الأمم المتحدة في قراراتها الأخيرة على ضرورة مكافحة الإسلاموفوبيا بوصفها تهديدًا للأمن والسلم المجتمعيين.
إصلاحات مقترحة.. من السياسة إلى الإعلام
يدعو التقرير الأخير إلى سلسلة من الإصلاحات الهيكلية. في القطاع القانوني، أوصى بسن قوانين أوضح تجرّم خطاب الكراهية الديني، ففي التعليم طالب بإدماج مناهج تعزز التفاهم بين الثقافات، وفي الإعلام دعا إلى مدونات سلوك أكثر صرامة لمحاسبة التغطيات المتحيزة، كما شدد على دور الحكومة في قيادة خطاب وطني يعزز قيم الكرامة والمساواة، وهذه التوصيات تتقاطع مع "الإطار الوطني لمكافحة العنصرية" الذي طرحته اللجنة الأسترالية لحقوق الإنسان، ويُنتظر أن يشكل مرجعًا أساسيًا للمرحلة المقبلة.
ما بين الخوف والأمل
شهادات المسلمين في أستراليا تكشف عن واقع مزدوج: خوف يومي من التمييز والعنف، وأمل في أن تؤدي هذه الجهود الحقوقية إلى تغيير ملموس، نساء محجبات تحدثن عن تعرضهن لمضايقات متكررة في وسائل النقل العام، رجال مسلمون أشاروا إلى شعورهم بأنهم "مشتبه بهم دائمًا" في سياقات أمنية، لكن في المقابل، عبّر العديد من الشباب عن استعدادهم للانخراط في مبادرات لبناء جسور مع بقية المجتمع، معتبرين أن المشاركة الإيجابية هي السبيل لمواجهة الصور النمطية.
تحديات سياسية ومجتمعية
رغم الزخم الحالي، تواجه جهود مكافحة الإسلاموفوبيا تحديات عديدة، بعض الأحزاب السياسية اليمينية لا تزال تستثمر في خطاب الخوف من "الآخر" لكسب الأصوات، كما أن وسائل الإعلام المثيرة غالبًا ما تضخم الحوادث المرتبطة بالمسلمين على حساب التغطيات الإيجابية، هذا المناخ يجعل من الصعب تحقيق إصلاحات سريعة وشاملة، ويضع مسؤولية إضافية على الحكومة والمجتمع المدني للعمل المشترك.
مسؤولية جماعية لمستقبل مشترك
تقرير المبعوث الخاص وموقف مفوض التمييز العنصري يضعان أستراليا أمام خيار واضح، إما مواجهة الإسلاموفوبيا كظاهرة بنيوية تهدد التماسك الاجتماعي، وإما تركها تتفاقم بما يحمله ذلك من مخاطر على الديمقراطية وحقوق الإنسان، مكافحة الإسلاموفوبيا ليست فقط استجابة لواجبات قانونية، بل هي التزام أخلاقي يعكس قيم العدالة والمساواة التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة.
المعركة ضد الكراهية لا تُختصر في تشريعات أو سياسات، بل تتطلب إرادة جماعية تعيد بناء الثقة وتضمن أن يعيش المسلمون الأستراليون -مثل غيرهم- في وطن آمن يحتضن تنوعه بدلًا من أن يخشى اختلافه.